بيان رئاسة الجمهورية في ظل غياب رأس الدولة وخطط المعارضة

أكثر من ٥ سنوات فى أخبار الوطن

كَّل بيان الرئاسة الموريتانية، الصادر بتاريخ: 15 يناير / كانون الثاني 2019 خلال جولة خارجية للرئيس محمد ولد عبد العزيز، أهمَّ تحول في مسار العملية السياسية بنواكشوط خلال الأشهر الأخيرة، كما يقدم رسالة بالغة التأثير للمحيطين بالرئيس والمناوئين له في آن معًا، فبعد حراك استمر عدة أشهر للمطالبة بتعديل دستوري جديد، وبعد السعي لتغيير المواد الدستورية المحصَّنة من أجل السماح للرجل بولاية ثالثة(1) وفك القيود المفروضة بقوة القانون منذ التعديل الدستوري الذي أجازته الحكومة والشعب خلال المرحلة الانتقالية 2005(2)؛ تم بالتشاور بين أركان الحكم إصدار البيان الذي اختار الرئيس أن يضع به حدًّا للجدل المتصاعد حول نواياه الحقيقة، ويعزز من خلاله ثقة الجمهور بالعملية الانتقالية التي تمر بها البلاد، بعد أن بلغ عدد الموقعين على مبادرة النائب محمد يحيى ولد الخرشي(3) أكثر من ثلثي البرلمان، وهذه المبادرة التي تمت من بعض أعضاء البرلمان الموريتاني الموالين للرئيس ولد عبد العزيز كانت ستسمح فعليًّا بالشروع في عملية مراجعة الدستور والتحضير لمؤتمر برلماني أو الدعوة لاستفتاء جديد، كما هو منصوص عليه في دستور 1992 ومجمل التعديلات التي أجريت عليه(4). ورغم مسارعة رئيس المبادرة، النائب محمد يحيى ولد الخرشي، في إعلان التمسك بمضمون البيان الرئاسي، وإنهاء الحراك دخل الجمعية الوطنية، ومسارعة الأحزاب السياسية المعارضة إلى الترحيب بالخطوة، وتغيير بعض رموز الحراك الجاري داخل البلد لأهداف الأنشطة التي كانوا يحضِّرون لها من تمسك بالرئيس ونهجه إلى محاربة خطاب العنصرية والكراهية وتثمين المرحلة الماضية وما تحقق فيها(5)، إلا أن البيان الرئاسي المذكور فتح المجال أمام العديد من الأسئلة، وأذكى الجدل حول العديد من القضايا التي لا تقل أهمية لدى الشارع ورجال السياسة عن حراك المأمورية، والصراع من أجل تعديل الدستور أو الإلزام به. مغادرة من أي نوع؟ يكاد أغلب المتابعين للشأن السياسي بموريتانيا يجزمون بعد البيان الرئاسي الأخير بأن الرئيس، محمد ولد عبد العزيز، حسم أمره وقرر مغادرة الكرسي قبل نهاية أغسطس / آب 2019 وفق ما تنص عليه أحكام الدستور(6)، لكن ما الترتيبات المتوقعة قبل مغادرة الحكم؟ ومن سيخلفه في كرسي الرئيس؟ ومن سيختار لقيادة المرحلة القادمة؟ وهل هو بالفعل قادر على حسم المعركة واختيار من يريد دون صعوبة؟ وهل سيحترم الرئيس محمد ولد عبد العزيز الآجال المنصوص عليها في الدستور لخليفته أم أن الرئيس يخطط لعودة سريعة إلى الحكم من خلال ترتيبات تم الاتفاق عليها مع رفاقه، وظهوره بمظهر الرجل الضرورة بعد أشهر قليلة من تخليه طواعية عن منصب رئيس الجمهورية؟ شكَّلت التغييرات العسكرية والأمنية والترتيبات السياسية والإجراءات التنفيذية التي اعتمدها الرئيس خلال الفترة الأخيرة رسالة واضحة عن حجم التحكم في مسار الأحداث الداخلية، ورغبته في تعزيز قبضته على الحكم، وهو المتحفز لمغادرته في انتخابات رئاسية ينتظرها جميع الفرقاء داخل الأغلبية والمعارضة باعتبارها نقطة تحول في مسار الأحداث. لقد أقدم الرئيس على إجراء تغيير جذري في المعادلة التي دأب عليها الرجل وأسلافه في اختيار رموز حكمه؛ حيث أقدم على الدفع برفيقه، العقيد المتقاعد الشيخ ولد بايَّه، إلى قيادة الجمعية الوطنية في أول أكتوبر / تشرين الأول 2018، وعُطِّلت جلسات البرلمان المنصوص عليها قانونيًّا(7) في انتظار عودة الرجل من رحلة استشفاء خارجية، بعد حادث سير تعرض له قبل انعقاد الدورة البرلمانية بأسبوعين فقط. ويوحى هذا الأمر بإعطاء دور محدد لرئيس البرلمان الجديد، ولد بايَّه، في العملية السياسية المزمع تنفيذها. وجاء قرار تعيين أحمد سالم ولد البشير، وهو أحد أبناء الأرقاء السابقين(8)، على رأس الحكومة في إجراء هو الأول منذ الإطاحة بالرئيس الأسبق، معاوية ولد الطايع، في الثالث من أغسطس / آب 2005(9)، وتعيين رفيق الرئيس ولد عبد العزيز الفريق، محمد ولد الغزواني، على رأس وزارة الدفاع ليكون بذلك أول عسكري يتولى المهمة منذ انقلاب 1984 على الرئيس محمد خونه ولد هيداله(10). كما حدث تصرف مفاجئ آخر حين تم التمديد لقائد أركان الدرك، الفريق السلطان ولد أسواد، في منصبه لمدة سنتين قادمتين، وكُلِّف الفريق محمد الشيخ ولد محمد الأمين الملقب برور بقيادة أركان الجيوش الموريتانية، وهو ثالث ضابط في المؤسسة العسكرية من حيث الترتيب، مما يجعل وزير الدفاع، الفريق محمد ولد الغزواني، هو القائد الفعلي للجيش، بفعل احتفاظه بالتنسيق بين الأركان العسكرية (الحرس والشرطة والدرك والجيش)، في حالة نادرة الحدوث في تاريخ المؤسسة العسكرية الموريتانية(11). إن هذه الإجراءات ضمن أخرى تعكس تخطيط الرئيس ولد عبد العزيز لمرحلة انتقالية متحكم فيها، وتحضير بعض رفاقه لقيادة المشهد بعد تنحيه دون تفريط في الجهاز العسكري والأمني في حالة استمرار ولد الغزواني عليه، أو التمهيد لمرحلة انتقالية يقودها الشيخ ولد بايَّه في حالة أُجبر خليفته على الاستقالة من منصب رئيس الجمهورية بشكل مبكر أو استقال بشكل طوعى ضمن خطة مرسومة بين أركان المنظومة الحاكمة قبل انتخابات يونيو / حزيران 2019. خيارات الأغلبية وآمال المعارضين بعد أن حسم البيان الرئاسي الجدل بشأن مغادرة الرئيس محمد ولد عبد العزيز للحكم قبل نهاية العام الجاري، تبدو الأغلبية الداعمة له أمام ثلاثة خيارات، هي: انتقال متحكَّم فيه: وهو أن يدفع الرئيس محمد ولد عبد العزيز برفيقه رئيس الجمعية الوطنية، الشيخ ولد بايَّه، إلى الواجهة كمرشح موحد للأغلبية الداعمة له، وهو ما يعني اختيار رئيس من نفس الدائرة التي حكمت البلاد منذ 2005، وتسليم السلطة إلى صديق وشريك، يجتمع معه في النظرة للعديد من القضايا الداخلية (كتسيير الثروة البحرية والمعدنية، وإعطاء الأولوية لتنمية مناطق بعينها، والتعامل مع بعض القوى المحلية والموقف من الأحداث التاريخية، ويتمتعان بنفس الرؤية للعديد من القضايا الإقليمية كالعلاقة مع الجزائر والتعامل مع البوليساريو، والشراكة مع الصين والموقف من الأوروبيين.. إلخ). وفى حالة اختيار ولد بايَّه مرشحًا محتملًا للرئاسة الموريتانية فإن السلطة الموريتانية ستستعيد شكلها المعتاد من خلال رئيس من أهل الشمال (منذ 1982 وهم ممسكون بزمام الأمور في البلد)، ورئيس برلمان من الأرقاء السابقين (من الممكن جدًّا أن يكون النائب بيجل ولد حميد، وهو النائب الأول لرئيس الجمعية الوطنية في الوقت الراهن) ووزير أول من مناطق الشرق الموريتاني، يمكن أن يعهد به لأحد أقران الرئيس (ولد الغزواني مثلًا) أو شخصية أخرى يتم الاتفاق معها لاحقًا. تحول في السلطة: وهو سيناريو يفترض أصحابه ترشيح الرئيس لوزير دفاعه، محمد ولد الغزواني، ليكون بذلك أول رئيس من مناطق الشرق الموريتاني ذات الكثافة السكانية يتم اختياره رئيسًا لموريتانيا. ويعتبر هذا السيناريو في حالة إقراره بمثابة تحول في نظرة القوى الفاعلة في هرم السلطة لأولويات البلاد، وانتقال سلس وعميق للسلطة من الشمال إلى الشرق، بحكم ما يتمتع به وزير الدفاع، محمد ولد الغزواني، من كاريزما داخل المؤسسة العسكرية، وعلاقاته الخارجية القوية مع العديد من الدوائر المهتمة بالبلد ومستقبل العملية السياسية فيه (المغرب والإمارات والسعودية وفرنسا)، والحاضنة الاجتماعية والمالية القوية للرجل (قبيلة إديبوسات)، وعلاقاته الداخلية الجيدة مع العديد من القوى المحلية، باعتباره أحد قادة المؤسسة العسكرية […]

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على