بناء الهوية العراقية من الليبرالية إلى مقتدى الصدر

أكثر من ٥ سنوات فى المدى

د. حيدر نزار السيد سلمان
يتفق معظم المؤرخين للتاريخ والفكر العراقي المعاصر بالدور الكبير الذي نهض به الليبراليون والعلمانيون بصياغة هوية وطنية عراقية موحدة ضمن ثنائية الدولة-الأمة والتركيز على الرابطة العراقوية كأساس وحدوي بغية تحقيق الدمج الاجتماعي لما أطلق عليه الملك فيصل الأول بمذكرته الشهيرة بـ(الكتل البشرية الثلاث التي يتشكل منها النسيج الاجتماعي العراقي) والتي من الصعوبة جمعها ببوتقة واحدة دون إرساء قواعد وأنظمة تربوية واجتماعية وسياسية، وحددت الباحثة والمؤرخة الأميركية (فيبي مار) تيارين رئيسين يتصارعان لإظهار الهوية الإيديولوجية وشكل الدولة السياسي وبناءها حسب عقيدتهما الفكرية السياسية، وهما كل من التيار العروبي الذي ربط العراق بالامتداد العربي والقومية العربية لاغياً دور الأقليات والأعراق الأخرى مثيراً حفيظة العرب الشيعة، يقابل ذلك تيار عراقوي أقل حضوراً سلطوياً مثّله ليبراليون وعلمانيون وشيوعيون ووطنيون ديمقراطيون، كان هذا التيار يشدد على العراق كأساس للعمل والبناء، ويمكن ملاحظة بروز تيار ثالث ظهر بنهاية عقد الخمسينيات من القرن العشرين. كان الصراع عميقاً وقويا بين هذه التيارات، وقد انضمر داخليا ليتمظهر بشكل أو آخر بصراع الأحزاب والتيارات السياسية العراقية في سياق عملها التصارعي الحزبي، غير أن ذلك انطوى على مخاطر هددت الهوية الوطنية العراقية تمثلت بإحياء للهويات العرقية والطائفية، وأصبح صراعها علنياً وواضحاً بعد عام ٢٠٠٣. في خضم هذا الصراع الذي تجسد بحرب طائفية في عام ٢٠٠٦، برز مقتدى الصدر كشخصية دينية سياسية في ٢٠٠٣ مثيراً زوابع من الآراء والمواقف المتعددة، خصوصاً أن الرجل قاد تياراً سياسياً تخضب خطابه بالشعبوية، وفصيلاً مسلحاً كبيراً وقوياً أصبح بالمدة التاريخية نفسها منجماً ثرياً لفصائل مسلحة أخرى اعتمدت عليه في مواردها البشرية، نحت باتجاه مختلف تماماً عن توجهات السيد مقتدى الصدر سواء بالانشقاقات أو بتغيير الرؤية العقائدية والسياسية، وبعد معارك عسكرية ضد الأميركان ومناوشات مع الأحزاب والفصائل الأخرى يبدو أن الصدر أدرك بوعي تداعيات حركته وما آلت إليه الأوضاع العامة، وحتى أوضاع التيار الذي يقوده وكيفية استغلاله من قبل قوى أخرى لمصالح داخلية وخارجية (لعل موضوع هذا الاستغلال بحاجة لمقال منفصل) فتحت أمام الصدر مغاليق سياسية ووفرت له نضجاً فكرياً وسياسياً ساهم في تغيير بوصلة اتجاهه وتياره من الخطابات ذات النزعة الدينية إلى خطاب وطني يوفر غطاءً لتشكيل هوية عراقية. إن هناك الكثير من المشككين بنوايا السيد الصدر وتصرفاته وخطابه الجديد بيد أن الأمور لا يمكن حسابها بالنوايا بل بالسلوكيات والبلاغات الخطابية، وفي هذا السياق قدم مقتدى الصدر قصة جديدة لبناء هوية وطنية عراقية بعد أن وعى، كما الآخرون، حقيقة العوامل الخارجية التي تحاول إبقاء التشتت الهوياتي والتمزق الداخلي مبنياً على تشظيات طائفية وعرقية تسبب صراعاً دائما وانعدام للاستقرار الاجتماعي والسياسي، ومن ثم تصيب بسهام فشلها عملية بناء الدولة ومؤسساتها وهو ما يشدد عليه السيد مقتدى الصدر بمطالبه العلنية لحصر السلاح بيد الدولة ودمج القوى المسلحة ضمن المؤسسة العسكرية والأمنية العراقية (حسب ماكس فيبر فإن الدولة الحقة هي من تمتلك حصراً قوة القسر وتتمتع بشرعية استخدامها)، كما يطالب بإلغاء البناء الحكومي على أساس الصيغ الطائفية والحزبية التي هي أصلا طائفية، وإعادة البناء على أساس الكفاءة والخبرة دون النظر إلى الانحدارات والأصول العرقية والدينية والطائفية للوزراء والموظفين، وحصر الاختيار على أساس الكفاءة وليس الولاء بمختلف ألوانه. ويزيد الصدر من نقاط وزن الدعوة للوطنية العراقية من خلال تكبير رقعة المشمولين بتغريداته وخطاباته لتشمل كل المكونات العراقية داعيا الجميع لاستحضار الروح العراقية وحسبان ميزان الربح والخسارة على أساسها.ويبدو أن الصدر يفهم جيداً ما تنطوي عليه دعواته هذه من تداعيات وردود أفعال بعضها يأخذ مساراً تسقيطياً، فهو يبدي حذراً واضحا وأسلوبا تدريجياً عارفا بما يريده مناوئوه بالداخل والخارج الذين لا يسعدهم حقاً سماع خطاب يعيد العمل ببناء وإرساء قواعد لهوية وطنية انتقلت مهام تحقيقها والدعوة لها لشخصية تعد بكل المقاييس دينية، ولعل المعارضين للسيد الصدر وخطواته ليسوا بالسذّج، وهو ما يدركه الصدر نفسه، فمن السهولة عندهم تحريك العواطف والمشاعر العقائدية كما حصل فعلاً وبحالات متعددة لتكسير قدراته وتجريده من قوة التأثير من خلال الترويج التشويهي لمحاولاته ربط العراق بعلاقات طبيعية مع جيرانه على أساس احترام السيادة وعدم زج العراق بعداءات ليس له مصلحة فيها، وقد بدت زيارات الصدر لعدد من الدول العربية واتصالاته كمنغصات وأشواك لقوى خارجية وداخلية لم تجد في هذه الاتصالات إلا تقزيماً لمشاريعها وخططها ومنها إبقاء العراق بلا هوية وبغموض يلف لون الدولة ونظامها السياسي. ولربما كانت الخلفية العُنفية المحاربة التي انطلق منها السيد الصدر تساعد الآخرين بإرباك الرأي العام وتشويه صورته الحركية والسلوكية المتهمة بالتقلب والمزاجية، كما تثير هذه الخلفية تساؤلات الشارع وشكوكه، لكن يبدو إن النضج المتصاعد للسيد الصدر بعد تجارب مريرة وقاسية ومنها اقتطاع أجزاء من جسده التنظيمي من قبل قوى أخرى صعدت باسم والده واسمه، والوعي بالمرحلة التاريخية تطمئن إن الصدر يسير بمشروع ذو برنامج هوياتي يتضح بالتدريج رغم اتسامه بالبساطة والتلقائية غير انه بكل الأحوال يعبر عن إرادة شعبية مضمرة ومعلنة وهو ما يتطلب استنفار جهود آخرين من كل الاتجاهات لدعم تشكيل هوية عراقية وإسنادها بحماس وطني.

شارك الخبر على