خطاب عاشورائي غاضب يتحدى السلطة وأحزابها

أكثر من ٥ سنوات فى المدى

د. حيدر نزار السيد سلمان
في كتابه ( من بلاط الشاه إلى سجون الثورة) يشير عالم الاجتماع الإيراني الدكتور إحسان نراغي إلى استلهام التاريخ والسرديات العقائدية الشيعية من قبل معارضي الشاه محمد رضا بهلوي لتسخيم صورة الشاه وإسقاطه نفسياً وثقافياً وإبرازه كطاغية يمثل حالة استمرارية للطغاة الذين اضطهدوا الشيعة تاريخياً وعاملوهم كأعداء. يشير نراغي إلى حادثة رواها الشاه نفسه بالأيام الأخيرة قبل سقوطه عام ١٩٧٩، إذ يُخبره أنه وبينما كان في مجلس عزاء بدأ خطيب المجلس العاشورائي يتحدث لجمهور من الحاضرين عن طغيان هارون الرشيد واستبداده وامتلاكه القصور والمنازل الفخمة وسيطرته على كل واردات الدولة مقابل الحرمان والتهميش الذي كان يعيشه الناس، ويشير نراغي إلى أن الخطيب كان يلمح بدلالات تاريخية إلى الشاه محمد رضا بهلوي كتجسيد حي وعصري لهارون الرشيد حتى أن رجال الأمن السريين كانوا متأثرين هُم أيضاً بالخطابات التي تستند بقوتها إلى التراث العقائدي كجزء من مجتمع انغرست فيه هذه الثقافة وأصبحت جزءاً من حياته وسلوكه وشخصيته. قبل أيام وأنا أستمع لخطيب حسيني بمناسبة ذكرى استشهاد الإمام الحسين، وضمن مراسيم العشرة الأولى من محرم، صنف الخطيب بلغة ساخطة لاذعة الساسة العراقيين الحاليين وأحزابهم السياسية بخانة أبناء مروان بن الحكم وبوضوح تام وعلانية فرز الخطيب بين معسكرين يخوضان صراعاً هما معسكر يزيد بن معاوية الذي يمثله الساسة وأحزابهم، ومعسكر الحسين الذي يمثله الشعب المظلوم المضطهد والمسروق من قبل المعسكر الأول. لم يك هذا الخطيب الوحيد الذي تحدث بهذه اللهجة القاسية، ولم يك أيضاً الوحيد الذي استعاد الأحداث التاريخية والسرديات العقائدية الشيعية ليقارب بين السلطويين الحاكمين وبين الطغاة التاريخين الذين يعدهم الشيعة رموزاً للشر والشيطنة؛ بل سار معظم الخطباء على هذا النهج ذي الاستعارات الرمزية، وهو ما يشير إلى انفصام بالروابط التي جمعت بين الخطباء بوصفهم لسان حال وأذرع ثقافية، وبين السلطويين الذين كان ينظر لهم بوصفهم ممثلين للطائفة المعززين قوتها ووجودها، مما يستدعي دعمهم وإبداء التأييد لهم، كما تشير هذه التغيرات الخطابية العاشورائية المالكة لسحر التأثير والجذب على جمهور ينصهر في هذه المراسم والطقوس ويتمظهر بوحدة الرأي والموقف، إذ كانت العلاقات بين الخطباء والسلطة تتراوح بين السكوت والتغاضي أحياناً، وبين التماهي والتبادل المنفعي في أحيان أخرى، ولعل السنوات السابقة شهدت دعماً آيديولوجياً وثقافياً علنياً للحكومة وأحزابها، وفي أفضل الحالات كان الخطباء يغضون أبصارهم ويبتعدون عن الإشارة إلى الأخطاء والفشل المرتكب، وإن أشاروا فتلميحاً، غير أن هذه السنة شهد هذا الخطاب هجوما صريحاً وعنيفاً، فقد شن الخطباء وقراء المراثي الحسينية هجمات منسقة وقاسية ضد السلطة رجالاً وأحزاباً، كما اختفى الحضور السلطوي عن حضور المجالس الحسينية. لقد تدرج الخطباء وقراء المراثي بخطابهم من موضوعات الفساد إلى الفشل بانجاز الخدمات العامة، مروراً بتدخل دولي بالشؤون العراقية، إلى الصراع المتصاعد على السلطة والمناصب وتقديم المصالح الخاصة على المصلحة العامة ومسألة تشكيل الحكومة، وكان يتناغم معهم جمهور يزداد حماسه وغضبه مع تصاعد حدة اللغة الخطابية. يستند أكثر الخطباء في موضوعاتهم وخطاباتهم على آراء ومواقف مراجع الدين من القضايا العامة، وبعد التذمر الذي أظهرته المرجعيات الدينية وتبرمها من الطبقة السياسية وفشلها، تصرف الخطباء على أساس هذه المواقف.لقد جاءت الخطابات والمراثي بنقدها العنيف وتماهيها مع الغضب الشعبي لتعبر عن المزاج المتشكل حديثاً كناتج لأزمات وصدمات وإخفاقات سببتها السلوكيات السلطوية المتعطشة للسلب والمصالح الشخصية والركون لطرق بائسة ومخجلة بإدارة الحكم والتلذذ باستغفال الجمهور بأساليب التخويف من الآخر والاتكاء على خطاب طائفي أمسى مملاً فاقداً لقدرته بالجذب والتأثير، وهو ما أشارت إليه المرثيات العاشورائية حين فضح شعرائها بكلمات منتقاة بعناية انكشاف هذه اللعبة التي مزقت النسيج الاجتماعي وسمحت للطامحين باحتكار السلطة كمغانم ومكاسب لا أكثر.إن هذا التطور بأساليب الخطاب وموضوعاته يشير لمدى التنافر الحاصل بين السلطة بأحزابها وساستها، وبين جمهور غاضب يشعر بالقهر والظلم وخيبة الأمل من طبقة سياسية ساندها بكل قوة وعناد وفتح لها طُرق وأبواب الحكم لكنها خذلته بصلف عجيب حين استغفلته بغدر تاريخي لا يمكن التغاضي عنه، وقد عبر الخطباء عن هذا الشعور بالظلم وفقدان الثقة بصراحة ووضوح كبداية قطيعة تنبئ بخطوات وتداعيات أكثر خطورة وراديكالية إن لم تستجب السلطة وأحزابها لهذه التحديات وتبدي تفهماً لواقع اجتماعي جديد أخذ بالبروز، سيما في المدن والمناطق التي كانت متعطشة لتحسين أوضاعها ومعيشتها واستبدال حياتها ومدنها من البؤس إلى الحد المتوسط من الرفاهية والعيش المستقر خصوصاً إن هذه المدن تُعد الخزين الجماهيري والتعبوي لهذه الأحزاب وسلطتها.

شارك الخبر على