من كامل الشناوي إلى نجاة

أكثر من ٥ سنوات فى الشبيبة

أحمد المرشدأعود اليوم إلى حكايات الحب والأغاني والطرب بعد انقطاع أسبوعين متتاليين بسبب السياسة ومتاعبها التي يبدو أنها لا ولن تنتهي، لأكتشف خلال الأيام الفائتة أن الحديث عن الحب يعطي الأمل في الحياة بعكس عالم الحروب والمؤامرات والصراعات التي تحيط بنا من كل جانب، فلنعود إذن الى عالم العواطف الجياشة والحب الذي يطيل العمر بعكس ما دونه والذي يقصفه، أي الحروب.ومن علامات الحب المميزة في الأغاني المصرية كانت المطربة نجاة التي تعلمنا منها الحب وعشنا علي مشاعر كلمات أغانيها، فأغاني نجاة تحمل أجمل وأرقى وأنبل العواطف وتحمل كل كلمة تخرج من بين شفايفها معني جديد للحب لم نكن نألفه إلا عندما تغني وكل كلمة تعني ألف رسالة رائعة للمشاعر الرقيقة، فثمة كلمة بسيطة كفيلة بتغيير مجري حياة وأن تدفع أي شخص الى الحب، خاصة وأن أغاني نجاة هي أغلى وأثمن من المجوهرات، فكلماتها جسر يحمل قلبين الى عالم الخيال والدراما والمشاعر والعواطف الملتهبة، فأغاني حب نجاة كانت تتغنى بحلم المرأة وانكسارها ثم مناجاتها حبيبها لتنقل لنا كافة أنواع المشاعر من غضب وحقد الى حب وارتياح وتسامح.وتصدح نجاة في أغنية «القريب منك بعيد» بكلمات لم تأت من غيرها في عالم الطرب عندما تغني لحبيبها وتقول:»أحلى كلمة حب قالتها شفايفي هي اسمك..أحلى صورة حب باستها عينيا هي صورتك».وربما بالغت قصائدها وأغانيها لنزار قباني في تصوير هذه الصورة حيث رسما معا حالة رومانسية خاصة بالحب لتنقل كل أحاسيس المرأة العاشقة، ثم سرعان ما تراها ناقمة مثل قصة قصيدة «أيظن» التي تصور حالة تضارب يتراوح بين حالتي استنكار وتساؤل حول ما إذا كان حبيبها سيرجع إليها في تلك الليلة رغم يقينها بعدم مصداقيته.كل هذه المشاعر التي تغنت بها نجاة في «أيظن» غنت عكسها في قصيدة ربما تكون هي الأهم في حياتها الغنائية علي الإطلاق، وهي «لا تكذبي» التي كتبها الشاعر الكبير كامل الشناوي ولحنها محمد عبد الوهاب وهو أيضا ملحن أكثر القصائد التي تغنت بها نجاة لأنه عرف مكامن القوة والضعف في صوتها وأخرج منها كل ما هو رقيق ويتسم بالحنان، حتي كانت الضحية والجلاد في «لا تكذبي» في نفس الوقت..لماذا؟، فهذه قصة طويلة ولكننا نقول بعض الذين عاصروا عاشقها كامل الشناوي والقريبين منه أنه كان يقصد بـ «لا تكذبي» نجاة التي نفت بدورها كل ما قيل عن أصل القصيدة، وكتب الكاتب الصحفي الكبير مصطفي أمين رواية مطولة عن هذا الشاعر و السر الذي سبب له ألما وجرحا غائرا في قلبه جعله يعيش حياته مكتئبا حتي توفي بحسرته علي حبه الضائع.كان كامل الشناوي شاعرا رومانسيا وعاطفيا وصاحب إحساس مرهف، ووضح هذا في قصائده التي تذوب رقة ودلال، وهو الذي عاش قصة حب من طرف واحد مع نجاة التي كانت على ما يبدو تتعامل معه كصديق مقرب جدا بعكسه حالته الغرامية هو لأنه كان محبا وعاشقا لها، وظل مخلصا لها حتى وفاته رغم عدم مبادلتها له نفس الشعور.قدم كامل الشناوي قصة حبه لنجاة في صورة أغاني وقصائد لمطربين كثيرين غيرها ونخص هنا عبد الحليم حافظ الذي غني له «حبيبها» «و»لست قلبي» ونقل فيها أحزانه حيال حبه الضائع رغم أن الشناوي وباعتراف الكثير من المقربين منه كان سببا رئيسيا في تقديم نجاة للجمهور والتي خصها بأجمل قصائده التي أظهرت جمال ونعومة صوتها، ولكنها فضلت عليه الأديب الراحل يوسف إدريس، وهي قصة الحب التي نفتها أيضا نجاة أكثر من مرة كنفيها أنها صاحبة «لا تكذبي».ويسرد مصطفي أمين في كتابه «شخصيات لا تنسى» حكاية كامل الشناوي مع نجاة، ويقول فيه: «عشت مع الشناوي حبه الكبير، وهو الحب الذي أبكاه وأضناه وحطمه وقتله في آخر الأمر، أعطى كامل لهذه المرأة كل المجد والشهرة والشعر ولم تعطه شيئا، أحبها أخلص لها، جعلها ملكه. وجاء في الكتاب أيضا أن أشهر قصيدة غنتها نجاة وهي «لا تكذبي» كتبها كامل الشناوي من واقع قصة حبه للمطربة نجاة التي تلاعبت بمشاعره حيث رأها مع من تحبه. ولم يذكر مصطفى أمين اسم الحبيب رغم أن الذين رووا القصة نقلوا عن كامل الشناوي قوله إن كشف بالصدفة نجاة ويوسف إدريس معا في ركن هادئ فنقل هذا المشهد بحرفيته رغم صعوبته على قلبه وعقله: «لا تكذبي..إني رأيتكما معا ودعي البكاء فقد كرهت الأدمعا ما أهون الدمع الجسور إذا جرى من عين كاذبة فأنكر وادَّعى إني رأيتكما..إني سمعتكما عيناكِ في عينيهِ في شفتيهِ في كفيهِ في قدميهِ ويداكِ ضارعتانِ ترتعشان من لهفٍ عليهِ تتحديان الشوقَ بالقبلاتِ تلسعني بسوطٍ من لهيبِ بالهمسِ، باللمسِ، بالآهاتِ, بالنظراتِ باللفتاتِ, بالصمتِ الرهيبِ..ويشبُ في قلبي حريقْ ويضيعُ من قدمي الطريقْ وتطلُ من رأسي الظنونُ تلومني وتشدُ أذني فلطالما باركتُ كذبك كله ولعنتُ ظني».ويؤكد مصطفى أمين بحكم قربه من كامل الشناوي والأوقات الطويلة التي قضياها معا، أن «لا تكذبي ليس بها مبالغة أو خيال، وأن الشناوي نظمها وهو يبكي على ما رآه من مشهد نجاة وهي مع حبيبها حيث كانت دموعه تختلط بالكلمات فتطمس، وكثيرا ما تأوه الشناوي كرجل ينزف وهو يكتب أبياتها»..المفاجأة أن الشناوي قرأ كلمات «لا تكذبي» بالتلفون على نجاة بمجرد انتهائه من كتابتها، وكان صوته ينتحب ويتنهد وتخرج منه الآهات تقطع قلبه الملتاع، وما أن انتهي من إلقاء القصيدة عليها حتي طلبت منه أن تغنيها هي.عاش كامل الشناوي حياته بعد هذه القصة محطما تماما رغم أنه لم ييأس من عودة حبيبته – أو نجاة له - وظل يسعى جاهدا التقرب منها بأي طريقة، فتارة يمدحها وتارة يذمها، يهذي بكلمات تعني أنه لا يزال يحبها ومستعد للركوع أمامها ثم سرعان ما تتبدل حالته ليؤكد انه سيقضي عليها لو رآها.لكم عاني كامل الشناوي حقاً من حبه الضائع - سواء نجاة وفقا لروايات المقربين منه وفقا لحكاياته هو أو غيرها- فهو لم يصدق تصرفات عاشقته له، حتي أنه أفصح للمقربين أيضا أنها امرأة غامضة لا يعرف هل تحبه أم تكرهه؟..هل تريد حبه أم قتله؟..وبين كل هذه المشاعر المتضاربة جاءت قصائد كامل الشناوي بعد «لا تكذبي» ليستكمل بها ما لم يكتبه في قصيدة عمره، فكان عبد الحليم حافظ هو ملاذه في التعبير عن همومه فكتب له قصيدة «لست قلبي» ليرمي فيها أحزانه ويواصل الحديث عن حبه لها من طرف واحد، لتخرج الكلمات معبرة عما يجيش به صدره من آلام.ورغم هذا الحالة المزاجية المتضاربة، لا يزال كامل الشناوي عند غيه القديم ولم يشأ أن يترك من طعنته في حالها تعيش مع من تحب أو تعيش بلا عاطفة، فواصل وصف حالته العاطفية الحزينة في قصيدة «حبيبها..لست وحدك حبيبها» والتي عهد بها أيضا لعبد الحليم حافظ ربما ليقينه أن نجاة كانت على خلاف كبير مع العندليب لأنه غني «لا تكذبي» بعدها رغم أنه ليس من حق أي مطرب في ذاك الوقت أن يعيد غناء ما غناه مطرب أو مطربة أخرى.. وكانت «حبيبها» خير معبر عما يجيش به قلب الشناويكتب كامل الشناوي «لا تكذبي» ليوصف حالته الآنية ويتبعها بـ»لست قلبي» لكي يقنع قلبه بالعودة لصاحبه، وينتهي بـ»حبيبها» ليؤكد لما خانته معه بأنه أيضا حبيبها مثله، بل هو الحب القديم، أنها مشاعر لا يشعر بها سوى من حب وعشق، ومن تكون الحبيبة؟ نجاة التي عشقها معظم شباب وقتها وحتى بعد وقتها، ولا أبالغ وحتى وقتنا هذا، فهي عنوان العشق.أحمد المرشدكاتب ومحلل سياسي بحريني

شارك الخبر على