ليس سياسياً..

ما يقرب من ٦ سنوات فى المدى

  د. لاهاي عبد الحسين
أكد خطيب المرجعية الدينية في النجف الأشرف السيد أحمد الصافي على نحو متواتر في خطبة الجمعة الفائتة في السادس من تموز الجاري أنّه يروم تناول عدد من القضايا التي يود ألا تؤخذ مأخذاً سياسياً. وقد وضع هذه القضايا إبتداءً تحت عنوان "من الذي يتكفل ببناء الإنسان!"، متساءلاً من المسؤول عن الفوضى التي تحدث في المجتمع العراقي وشيوع حالة من عدم الاكتراث في بناء الإنسان. وعاد ليؤكد إنّ هذه قضية غير سياسية "لأننا نبحث في إطار عام". وأعطى أمثلة عما يحدث في الشوارع والأزقة من حيث انتشار الأوساخ أو تهديد شرطي يقوم بتطبيق القانون بتدخل عشائري واستعداد العشيرة لممارسة التدخل مذكراً أنّ العشيرة كانت عنواناً للتضحية والجهاد والامتثال للصالح العام. أو عندما يختلف طرفان حول حصصهما المائية فإنّهما ينزعان إلى الخصومة والقتال وإيقاع الضحايا.
وتساءل من المسؤول!. وعاد السيد الصافي ليقول: هذا بلدنا. لماذا هذه الجرأة في الدماء مؤكداً أنّ القضية بالنسبة إليه ليست "سياسية". ويستطرد في التساؤل عن السبب في عدم وجود كوابح ولماذا التساهل في كل شيء حيث الأنهر قذرة والأولاد لا يتقنون القراءة والكتابة بل إنّ خريج كلية لا يحسن الكتابة. ومضى إلى القول: تنتشر الرشى والمال الحرام في وقت صار فيه النظيف يمشي خجلاً لأنّه لم يرتش. وعاد ليقول: هذه ليست مسألة سياسية. وناشد الدولة بإطارها العام والمؤسسات والمدرسة والأسرة لتحمل مسؤولياتها، واختتم بالقول إنّه لا بد من وقف "النزيف الأخلاقي"، وحماية "المنظومة الأخلاقية"، في المجتمع من الانهيار. انتهت عند هذا الحد خطبة الجمعة والسؤال الذي يمكن التأمل به أنّه اذا لم تكن كل هذه القضايا التي جاء بها خطيب المرجعية الدينية سياسية فما هو السياسي!. لعل من أبجديات معنى السياسة على وجه العموم القول إنّها عملية وضع السياسات للتأثير في مصادر السلطة واستخداماتها. فالمؤسسات السياسية بطبيعتها مؤسسات اجتماعية تتولى مسؤولية المحافظة على النظام الاجتماعي وممارسة السلطة لتحقيق الطاعة والخضوع للنظام القائم وتوفير الوسائل الهادفة إلى تحقيق التغير المنشود في النظام الاجتماعي والإداري. تتحرك هذه المؤسسات من خلال تطبيق القوانين التي تتحمل مسؤولية فرضها ومتابعة تعزيزها في المجتمع. من جانب آخر، صحيح إنّ المجتمع يتكون من قوى مؤثرة كما في الأسرة والعشيرة والمؤسسة الدينية إلا أنّ هذه القوى تتباين في مستوى التأثير بحسب قوة الدولة وهي المؤسسة السياسية الرئيسة التي تمتلك مقومات التدخل من خلال الأجهزة الفنية والمهنية المختصة التي تمكنها من إدارة شؤون البلاد. اختلف العلماء في النظر إلى الطريقة التي تتغير فيها الأسرة وهي النواة الأكثر أهمية في أي مجتمع إنساني. فمنهم من قال إنّها تتغير من الداخل وتشع بتأثيرها على بقية المجتمع كما في التفسير الماركسي الذي يعوّل كثيراً على تصاعد الوعي وتطوره لدى الزوجين أولاً ومن ثم الأبناء من بنين وبنات وصولاً إلى باقي فئات المجتمع وطبقاته. ومنهم من قال إنّ الأسرة تتغير من الخارج أي من خلال تدخل الدولة لفرض القوانين التي تنمط حياتها وفقاً لما تراه سليماً من أجل تحقيق الصالح العام بحسب التفسير الفيبري. معلوم أنّ العراق شأنه شأن كثير من دول العالم يعيش تحت وطأة الدولة بإمكاناتها المالية والبشرية الضخمة ومنظومة قوانينها وسياساتها المؤثرة في المجتمع مما يجعل من الحديث عن أي إصلاح اجتماعي صعباً خارج الدور الذي يمكن للدولة أنْ تلعبه وهو دور سياسي بإمتياز. فالدولة العراقية هي صاحب العمل الأكثر قوة وجبروت منذ عقود من الزمن. يعتمد ما لا يقل عن ثلث العراقيين على رواتب الدولة ممن يعملون موظفين ومتقاعدين لديها وتحت إمرتها. تدير الدولة النظام التعليمي إبتداءً من المرحلة الإبتدائية فالمتوسطة والإعدادية والتعليم العالي حتى إنّ التعليم الأهلي الذي توسع مؤخراً يعمل بإمرة الدولة وبالتنسيق معها من حيث المناهج وطرق التدريس وضوابط منح الشهادات العلمية وكل ما يرتبط بها من نشاطات. تتحمل الدولة مسؤولية التصرف وإدارة شؤون البلاد الاقتصادية فهي المالك الأوحد للموارد النفطية وبعض المعادن الأخرى إضافة إلى بعض المؤسسات الصناعية الأخرى التي تدفع رواتب للمشتغلين فيها دون أنْ يكون لهم دور إنتاجي كما في كثير من المصانع والمعامل مثل مصانع الحديد والصلب ومعامل الورق والطابوق والسمنت والسيارات وما إليها. تحتكر الدولة السيطرة على المؤسسات الأمنية مثل الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية الأخرى التي تؤدي أدواراً حيوية للمحافظة على الأمن والاستقرار في البلاد. هذا باستثناء بعض الجماعات المسلحة التي نشأت في ظل ظروف استثنائية يفترض أنْ تنظم بطريقة لا تتناقض فيها مع الدولة ودورها الأساس لتحقيق الأمن والاستقرار في البلاد. يتحمل المجتمع مسؤولياته في دعم دوران الحياة اليومية ولكنّ المجتمع بحاجة إلى ضابط مسؤول ومدير تنفيذي على مختلف المستويات. في ظل الحياة الحديثة تتأثر الأسرة بقوانين الدولة. فالناس يعقدون زيجاتهم في محاكم الأحوال الشخصية ويأتمرون بأوامرها ويسترشدون بقوانينها. ويذهب الأولاد والبنات إلى مدارس الدولة ويعملون فيما بعد في الغالب في مؤسساتها. يستجيب المواطن بعد قليل من التوعية والمناشدة والتوجيه لما تطلبه منه الدولة وتحثه عليه وإنْ لم يكن تجبره على القيام به. ولكنّ المواطن بحاجة إلى مستلزمات مادية ليجسد استجابته بالسلوك المطلوب والسليم. هناك الكثير من الآليات والأدوات سهلة الاستخدام التي يمكن للبلديات المعنية اقتناؤها وتوفيرها للمواطنين ليسهموا معها في تحقيق النظافة والمحافظة عليها ووقف التجاوز على الحصص المائية والكهرباء وغيرها من الخدمات الأساسية. ليس هناك من سبب يدعو إلى الاعتقاد في أنّ المواطن لا يهتم بنظافة بيته ومنطقته. ولا وجود لمواطن يفرّط بمستقبل أبنائه ويعبّر عن السعادة لاعتماده على التعليم الخصوصي المكلف وبخاصة لذوي الدخل المحدود لضمان نجاحهم وتفوقهم. ولا وجود لمواطن يستهين بآداب الشارع والمكان إلا عندما يرى أنّ الفوضى حالة عامة وأنّه ليس بالضرورة طرف فيها مما يؤدي به أو بها إلى الإسهام في زيادتها. أما الشرطي والفني والمعلم والطبيب والكاتب والصحافي والأديب والفنان والمثقف والأستاذ الجامعي، فأشخاص يقومون بأعمالهم بحسب ضوابط ومعايير تتطلب الحماية والاحترام بمثل ما تتطلب المتابعة والمحاسبة عندما يثبت ما يبرر الاستهتار بأداء الواجب والقيام به. وهذا الشق الأخير لا يتحقق الا من خلال منظومة قانونية مفصلة ودقيقة وأشخاص يقومون بتطبيق هذه القوانين بشرف ومسؤولية. تنقل وكالات الأنباء في كل مكان في العالم وفي كل يوم أخباراً عن مسؤولين أكفاء قدموا استقالاتهم من عملهم أو أقيلوا منه بسبب انتقادات وجهت إليهم أو قضايا فساد كشفت عنهم. هكذا تحقق المجتمعات الإنسانية أهدافها. القضية سياسية من أولها إلى آخرها. المجتمع العراقي مجتمع سياسي شأنه في ذلك شأن أي مجتمع إنساني آخر. إنّه يخوض في السياسة ويعمل فيها ويعالج مشكلاته وأزماته من خلالها. لن يكون بإمكان المجتمع النهوض بعملية بناء الإنسان دون أنْ تتولى الدولة بمؤسساتها والقائمين عليها مسؤولياتها الجسيمة. من الصعب توقع أنْ يمارس المجتمع والإنسان فيه دوره بفعالية في دولة يتحارب المشتغلون في السياسة فيها حول مصالحهم الشخصية والحزبية والفئوية الضيقة. ومن الصعب توقع أنْ يحقق الطلبة وهم عماد البلاد ومستقبلها طموحاتهم في بلد لا يحاسب المسؤول فيه عن فضيحة تسريب الأسئلة والتلاعب بالدرجات وانهيار معايير الترقيات الأكاديمية للسماح للدخلاء من غير الأكفاء باقتحام المؤسسات التعليمية على اختلاف مستوياتها. قال تعالى في محكم كتابه العزيز "وأتبعوا أولي الأمر منكم"، مما يضع المسؤولية مباشرة على المسؤول السياسي والمشتغل فيها ليس لإصدار الأوامر والتغالب على الامتيازات والانشغال بالإيفادات والسفرات والإجازات المفتوحة في دول المهجر، حيث يقيم معظمهم إقامة دائمة وإنّما بتوسم المسؤولية للنزول إلى الشارع وتفقد أحوال الرعية واحترام آراء المشتغلين في مؤسساته الثقافية والإعلامية والتعليمية والقانونية والأمنية. إخلاء مسؤولية المشتغلين في السياسة من مسؤولياتهم سيوفر غطاءً أوسع وأكثر سمكاً للمضي في مزيد من الفوضى والتخلي عن عملية بناء الإنسان.

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على