من وحي الانتخابات

ما يقرب من ٦ سنوات فى المدى

 د. لاهاي عبد الحسين
على الرغم من كل ما أضفي عليها من سمات الفشل وسوء الإدارة وخيبة الأمل، أثبتت عملية التحضير للانتخابات التشريعية العامة في العراق على المستوى الاجتماعي أنّها موضع اهتمام ومتابعة وحرص شعبي كبير بدا واضحاً في أكثر من شاهد ومثال. لعل أبرز هذه الشواهد والأمثلة التكتل المجتمعي بين "اليمين" و"اليسار" على مستوى صفحات التواصل الاجتماعي الذي تمثل في تشكّل فريقي المشاركة والمقاطعة. وهذه علامة إيجابية وصحية، بالتأكيد. فلو لم يكن هناك اهتمام البتة لما ترشحت شواهد من هذا النوع خاصة وأنّها ظهرت وتنامت بتسارع متلاحق كلما اقتربنا من موعد إجراء الانتخابات وبدون تنسيق مسبق بين أعضاء كلا الفريقين. تطور شعبي واجتماعي أخذ في الانتظام شبه التلقائي والعفوي نتيجة تفاعلات مباشرة غير مدفوعة من أية جهة كانت على وجه التعيين وبامتياز. والحق فقد كان الفريق الداعي إلى المقاطعة هو أول ما ظهر مما أستوجب ردة فعل ساهمت بصناعة فريق مقابل سرعان ما أخذ إسم فريق دعاة المشاركة. فقد فوجئ كثيرون بالدعوة التي تزداد إصراراً وثباتاً إلى مقاطعة الانتخابات لأسباب معروفة على وجه العموم وهي التي ترتبط بمشاعر اليأس والقنوط من التغيير وقلب البساط من تحت أقدام عتاة المشتغلين في العملية السياسية من الفاشلين المتحذلقين على حين غرة بمعاداة المحاصصة الطائفية والعرقية والحزبية والمدعين بالرغبة للعودة إلى روح المجتمع المدني وتصحيح المسار. بالمقابل هبّ عدد قليل ولكنه متنامٍ أيضاً من دعاة المشاركة بالانتخابات من المؤمنين بقناعة فكرية وقيمية مجردة بقواعد النظام الديموقراطي ابتداءً والمعبرين عن قبول تصور أولي في أنّ التحول والتغيّر من مجتمع قبلي ودكتاتوري مستبد إلى آخر مدني وديموقراطي حر لن يكون أمراً سهلاً ولا يتوقع له أنْ يحدث بسرعة بل يمكن وببساطة أنْ يستغرق زمناً طويلاً، الأمر الذي يتطلب صبراً ودأباً وأناة. يستشهد هؤلاء بتجارب الشعوب في شرق العالم وغربه وفي ماضيه وحاضره. لم يخل ظهور هذين الفريقين وتفاعلهما الندّي من رشات متبادلة من الشتائم والسباب وفي الأقل التعبير عن مواقف اتسمت بالعصبية والتعصب التي ظهرت هنا وهناك حتى بلغ بعضها حد تخوين طرف لطرف. بيد أنّ سلوكيات من هذا النوع تحولت بصورة تدريجية باتجاه قنوات التواصل العقلاني لتحسين طرق التبادل والتفاعل الأمر الذي وجد أصداءً مشجعة من قبل أعضاء كلا الفريقين. شواهد شهدت لما يمكن أنْ نسميه "قوة المجتمع". دأب أصحاب الأيديولوجيات الثورية والتقدمية على القسم بإسم الشعب وراهنوا على إرادته التي لا تقهر وأصروا على صعوبة تجاوز آماله وطموحاته وهذا ما تكرر هنا. فالعراقيون لا يختلفون عن شعوب العالم من حيث الرغبة بالانتصار للحق والعدالة ونفض ما علق في مؤسساتهم الرسمية وغير الرسمية من تردٍ وفساد مالي وإداري، الأمر الذي بدا فيما قدمنا إليه من تكتلات متفاعلة وليست مجرد انقسامات سلبية وجامدة على المستوى الفردي. ومضى الأمر حد أنْ صرنا نقرب من أنْ نقرأ فيما بين سطور المتجادلين بحماسة من جانب أعضاء كلا الفريقين، المقاطعة والمشاركة ما كتبه أحد أبرز مفكري الثورة الفرنسية فولتير: "لا أتفق معك ولكني سأدافع حتى الموت من أجل أنْ تتمكن من التعبير عن رأيك".في خضم هذه التطورات المجتمعية التي دلت على سلامة نمط الممارسة الشعبية وتفاعلها البناء مع العملية الانتخابية ظهرت بيانات وفيديوات وتصريحات عبّر فيها مسؤولو الكتل الكبيرة التي دخلت ميدان المنافسة الانتخابية عن عظيم القلق والخشية من الخسارة والخروج صفر اليدين. وهذا ما أدى بهم إلى العودة لتبني ذات الممارسات المريضة بصورة مكشوفة لشراء الأصوات من خلال متعهدين كانوا يديرون عمليات التلاعب بطريقة التاجر الغشاش الذي لا يعرف للعيب أو الشرف والوطنية معنى على الإطلاق. وقد يكون في ممارسات من هذا النوع دليل يسلط الضوء على صعوبة القيام بالتزوير الذي حدث على نطاق واسع في الانتخابات التشريعية العامة السابقة عام 2014. فعندما لا يكون التزوير ممكناً يصبح شراء الأصوات بالمال العام الرخيص المستباح من قبل من أوتمن عليه أسهل. أما صغار المرشحين من ذوي الحظوظ المحدودة والقوائم غير المعروفة من المستميتين من أجل الفوز بأيّ طريقة كانت، فقد عملوا وفق قاعدة "الغاية تبرر الوسيلة". فكان أنْ نزع البعض منهم ثوب المدنية الذي ظهر به أولاً ليحضر مراسيم العزاء الدينية التقليدية في أوساط اجتماعية تعاني من شظف العيش ولا تمانع من التصديق بأيّ بارقة أمل أو وعد مضروب. وآخرون نزعوا بدلاتهم المدنية وتحلوا ببدلات عسكرية ومرشحون ذكّروا بصلة القرابة التي تربطهم بأسماء عائلية معروفة. هذا إلى جانب التلاعب بالمفردات والكلمات بداعي زرع الأمل والتبشير به. ولم تمسك بعض المؤسسات الحكومية وغير الحكومية نفسها ومنها خطيب المرجعية الدينية في الجمعة التي سبقت الانتخابات السيد أحمد الصافي ليحث أتباع المرجعية ومريديها على المشاركة بحسب "تقوى القلب واتباع هواه" في إشارة واضحة للتصويت إلى إبن الجماعة والمحسوب عليها وإنْ لم يحدد من يكون. معلوم أنّ المرجعية الدينية اختتمت خطبتها في الجمعة السابقة بالتأكيد على أنّها تقف على مسافة واحدة من جميع المرشحين.الحسن في كل هذا أنّ نوعاً من التمرد على "صنمية المنهج" قد حدث في المجتمع العراقي بقدر تعلق الأمر بالتعبير عن الرأي والقناعة والخروج على الجماعة سواء على مستوى العائلة أو العشيرة وحتى الجماعات الدينية والمذهبية المعروفة. فقد بدأ الحراك الاجتماعي يحدث من خلال زعزعة القناعات وبث الأمل واحتدام الجدل والاختلاف حول قضية محددة. شكراً لأقطاب المقاطعة والمشاركة وجنودهما المجهولين. يبقى أنْ ننتظر النتائج لنرى إلى أي حد فعل هذا الحراك فعله على مستوى التأثير بخيارات الناخب وإصراره على التصويت للمرشح الفاعل والصانع للتغيير فعلاً. من جانب آخر، كان لاستباق النتائج والتبشير بالفوز لقائمة معينة أو مرشح بعد الانتهاء من التصويت الخاص بالأجهزة الأمنية والخارج تأثير سلبي للغاية على بعض المرشحين الواعدين. فقد أثار مثل هذا الاستباق غيظ المتحاملين من غير المقتنعين بحيادية المنافسة الديموقراطية وممن لا يسلمون بالقواعد التي تقوم عليها وأهمها مبدأ عدم التدخل واحترام النتائج التي تتمخض عنها أنْ أطلق العنان لحملات طبخت على عجل أخذت شكل الدعاية المبتذلة والأكاذيب البيّنة ضد مرشحين معينين أو كتل بعينها. ولم يسلم الإعلام من مثل هذه الهجمات برمته والذي وصف بالكذب والانحياز. وهذا ما يستوجب كلمة شكر للإعلام والإعلاميين النقديين على وجه الخصوص لمساهمتهم في تنوير الرأي العام وتزويدهم جمهور المتابعين بما يهمهم الإطلاع عليه وتحمل ما يأتي مع هذا من أعباء في ظل ظروف عمل لا يحظى فيها الإعلامي بالحصانة والحماية والرعاية الكافية سواء على مستوى تفعيل القوانين الخاصة بعمل الإعلاميين أو على مستوى الجهد النقابي المطلوب. يمثل الإعلام النقدي الحيادي الذي اقتحم ميادين متعددة جديدة في العراق اليوم مشهداً آخر لم يسبق أنْ ظهر بصورة تزداد تحديداً وحضوراً الأمر الذي يذكّر بموقف نقابة الصحفيين العراقيين. لن يكون بإمكان النقابة القيام بعملها بما يرضي وسطها ويعزز ثقته بها ما دامت تحرص على علاقتها الإيجابية بالهيئات الرسمية وبخاصة الحاكمة منها. ستتمكن النقابة من أداء دور يستأهل الثقة والاحترام من قبل وسطها الإعلامي أولاً عندما تقف على الحياد وتبتعد عن أنْ تكون نصيراً لأية جهة رسمية من حيث أنّ هذا سيخلّ بدورها ورسالتها النقابية بصورة مباشرة.يلاحظ أنّ معالم الحراك الاجتماعي المشار إليها معارضة ومختلفة بطبيعتها وتتسم أيضاً بالسيولة وعدم الثبات والجمود. فهذا حراك ليس ضرورياً أنْ يأخذ شكلاً متشدداً و"قافلاً" بل حراك يمارس الانتقال من هنا إلى هناك والعكس صحيح على مستوى المواقف والتبادل بالرأي والتعبير عن القناعات بحسب توفر البيانات الجديدة. لا غبار على من يغيّر آراءه وقناعاته بشأن قضية ما على المستوى الاجتماعي. فقد مات زمن الولاءات المطلقة والنهائية والأخيرة وحلّ محله زمن التصورات والقناعات النسبية والمتحركة غير الثابتة.

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على