النبيذة.. تضحك ويتساقط الكرز الاحمر من فمها

ما يقرب من ٦ سنوات فى المدى

 ناجح المعموري
صدرت رواية جديدة لأنعام كجه جي " النبيذة " عن دار الجديدة بعد روايتين مهمتين لها ، هما " الحفيدة الامريكية " و" طشاري " وكلاهما ذهبا بقوة وفنية متميزة نحو السرديات التي انتجها التابع حول علاقته مع الآخر / الكولونيالي ، وتفاوت في تكريس الخطاب هذا . لكنه متمركز جداً في " الحفيدة الامريكية " وفي " طشاري " لاحقاً بعد الطرد والنفي من العراق ، جماعات غادرت مكرهة مكانها وتركت وراءها ذاكرتها وما استطاعت عليه . حملته الذاكرة عبر صناديق الفوتوغراف الكارتونية . الصورة تدوينات بالأسود والأبيض ، لعتبات العوائل وحياتها الزاهية ، ومحطات الخيبة وتباين الهوية ما اخترقها ودمرها من علاقات . الصورة حاضرة وجوهرية في روايات أنعام كجة جي لأنها انموذج على التحضر والوعي في التعامل مع الفرص الحياتية والأعياد والأفراح . هي سرديات مركزة أو قل مختصرة بالصورة التي صارت رمزاً مركزياً ومهيمناً في الديانة المسيحية . وفي كل رواية من الروايات الثلاث وظيفة محددة متشابهة ومغايرة لما حازت عليه الصورة في الحفيدة الامريكية . الصورة ذاكرة حية / يقظة / قوية وكاشفة عن حياة بغدادية ، مازالت متباهية بماضيها وهيبتها العسكرية التي دمرها الغزو الامريكي واحتلال المليشيات وعنفها فصورة العسكري المعلقة في احدى غرف البيت بالكرادة ، ملتمعة ومزهوة بماضيها ذات دلالة على استحالة انكسار الذاكرة العسكرية المنسجمة مع كل الوقائع والقادرة على ضبط سردياتها . الأب العسكري ببطرياركيته التي تستعيد مجدها الما قبل يوم كانون الثاني من كل عام ، حيث يستخرج بدلته العسكرية ويرتديها ، ويعبر عن حنين لمجد لم يعد حاضراً / أو قائماً ، لكنه مكتف بهذا الفعل الطقوسي كل سنة . ويعلن عن موجود في الوجود . الحضور للصورة في روايات انعام كجة جي حضور وقائعي يشكل خيطاً رابطاً بين العوائل والجماعات ، محافظاً على ذاكرة جماعية اختزنتها صناديق الكارتون ، أما في رواية طشاري فإن الصورة تحولت توزعاً ، تفرقاً في مكان هو الأصل الكولونيالي الذي استقرت فيه تاج الملوك ، استقبلت باريس في الطشاري صورة مكبرة وبإطار جميل جداً للأب الذي ظل حاضراً من خلال سرديات تمثيله لذاكرة السريان ، لم تتركه العائلة ،أمر صعب ومعقد للغاية ، لأنه ـــ الأب ـــ بصورته يمثل كليانية الهوية والسفر معه حيازة أبدية لهوية لن تتقشر . وتتخذ الصورة الفوتوغرافية رمزيتها القوية بالنسبة لـ " تاج الملوك " بعد شيخوخة معقدة ، لا تملك غير ارادة ذاكرتها المختزنة والمحفوظة بالفوتوغرافية وسط علب الكارتون المضمومة تحت سريرها ."تاج الملوك " أسطورة مدونة بالفوتوغرافية والرسم ، هي شابة مغايرة ، مختلفة وسط حياة ليس سهلاً التقاط صورة لفتاة . التقط لها أرشاك بورتريتا عارياً . هي متمردة وهادئة ، محتجة على السائد ومحافظة عليه بهدوء ، لكنها تزوغ عنه لحظة ما تجد فرصتها " تاج الملوك " الشابة / العسل المثيرة ارتضت التعري أمام ارشاك . لم تكتف أنعام كجة جي بالصور التذكارية الخاصة بالأعياد والأفراح ، بل ذهبت لأول مرة في رواياتها نحو الموديل . لتومئ لأهم مرحلة في حياة بغداد الضاجة بالشعراء والفنانين واخترقت السائد ودخلت الغرفة المظلمة " كان يحتفظ بتلك الصور في درج مقفل . اسرار المهنة . لا يعرض اللقطات الحميمة الا على من يعرف الفرق بين الفن والفضيحة . رآها الرسام في الصورة عارية بخفر . تدير رأسها جانباً وكأنها تهرب من التقاء عينيها بعين الكاميرا . تشبك ذراعيها على صدرها فيزداد منظرها اغراء . سحب الصورة وتأقلمها بدهشة المعجب . صاح : هذي تاج الملوك .يتكتم ارشاك على اسماء موديلاته . لكن اكرم التقط ما كان يتمناه . من تمتلك تلك الشجاعة امام المصور لن تخذلها جرائها امام الرسام ص104//مثير ما تحقق لارشاك ، هذا ما كشفت عنه اللمحة السردية ، لكني اعتقد بأن الموديل الفوتوغرافي لم يكن ظاهرة معروفة مثل الموديل للفنان التشكيلي . وما فعلته " تاج الملوك " كاف للتدليل على المرحلة السائدة وسيادة ثقافات عديدة ، متنوعة متغايرة بين الجماعات الادبية والفنية . هذا ما اشارت له انعام بوضوح وحضرت امامي وانا اتابع علاقات " تاج الملوك " ، مرحلة الاربعينات ووجود الفنانين البولونيين ودور جواد سليم وشاكر حسن ، فوران الحداثة وانعكاسات ذلك على التشكيل والشعر والسرد والثقافة .تحدت " تاج الملوك " انموذج الصورة الساكنة المحجبة ، ونزعت كل شيء ، تعرت تماماً بعد اسبوع كانت حاضرة عنيدة في المرسم . دارت في الغرفة الفسيحة دورة كاملة ، ثم عادت وتربعت على الاريكة الزرقاء . خلفها نافذة عريضة مفتوحة على بستان نخيل . وكلب ينبح من بعيد ، والمساء ينشر رائحته شبّو الليل في حدائق الصليخ .- شاي ام - ام .....صبّ لها ولنفسه قدحين من الويسكي . كمش حفنة صغيرة من الفستق وبعثرها في فتحة قميصها . فاجأتها الحركة . ارتبكت والحبّات تنزلق بين نهديها وعلى بطنها تتجمع عند حزام خصرها ....... تلامس القدحان وشهق البلور . وشرب نخب زيارتها ، وهي تمد طرف لسانها في جوف قدحها ص105//المكان موصوف بوضوح فوتوغرافي ، في رموزه شحنة جنسية تتصاعد قليلاً ، حتى تصل ذروتها ، لحظة ممارسة الاتصال اللذي مع كأسها عندما مدّت طرف لسانها في جوفه .العلاقة الجديدة مع التشكيلي اكرم شكري كشاف عن لحظة الحداثة في بغداد ، بعد عودة عدد من الفنانين والمهندسين الى بغداد وتاج الملوك مرآة للحظة الثقافية الجديدة . ورضاها موديلاً للفنان قناعة ووعي ولا يعني ابتذالاً ورخصاً .تدنو انعام كجة جي اكثر من الرمز التقليدي المقترن بالمرأة ، بعدما كانت النخلة في الما قبل رمزاً عميقاً مرتبطاً بالأسطورة البدئية المقدسة ، التي عرفتها الاختام الاسطوانية السومرية ( لم تجد الرسام في الغرفة . كانت رائحة الاصباغ ثقيلة . وعلى المسند لوحة لم ينشف الزيت عليها . امرأة تشبهها . هي وليست هي . تستلقي عارية وافعى مرقطة تستر اسفل بطنها ص106//استذكار التصاوير او الاعلان عنها ينشر هزة وجع ، لانها وسيلة المطرود لايجاد الكلام وقول ما يجب ان يسمعه الجليس ، حتى يعرف صعوبة حضور الصورة وما تعنيه بغياب طرف مهم فيها " ولم يتمكن من نسيانها . ضحكتها ما زالت في اذنه . ينزع سماعتيه فيسمع غناء تاج الملوك . كبرت بناته وصرن نساء رائعات . يخرج من محفظته صورهن . يتدرع بالتصاوير . مثل تاجي . هي وثائق المهاجر لاثبات انتمائه الى مكان غاب عن يومياته ص 147//النخلة اكثر الرموز دلالة على الانثى ، اقترنت مع جسدها والطاقة الكامنة فيه ، انها رمز شمس ، والابتهاج ، والاستقامة ، والشهرة بالصورة التي تنمو بها وتتصاعد الى اعلى ، والمباركة ، وفرحة النصر ، والانتصار . ان النخلة التي لا تطرح ثمرها ابدأ تستمر في التزين بلون الاخضر نفسه ، ترمز للرجولة والخصوبة ، لكنها مع التمر تعني الانوثة ، قامتك كالنخلة الباسقة وثدياك مثل عناقيد العنب / نشيد الانشاد . كما ترمز الى طول البقاء والعمر المزهر المديد ، وعند العرب شجرة الحياة ( .... سعف النخيل رمز القديس بولس الناسك الذي يمسك بسعفة نخيل في يده / جي . س كوبر / الموسوعة المصورة للرموز التقليدية / ت : مصطفى محمود / المركز القومي للترجمة 1727//وظفت انعام كجة جي النخلة قليلاًفي تفاصيل روايتها ودقيقة . جعلتها متناظرة مع تاج الملوك في شيخوختها واما عندما كانت شابة فقد انفتحت دلاليا ولم يكن سهلاً على من يريد تمرها ان يتمكن / كل ذلك وهي تشعر بقلبها بكراً لا يزال ، نخلة تنتظر صاعوداً يهز جذعها / ص161//الازدواج الدلالي للنخلة في المسيحية وغيرها من الديانات والثقافات وهي رمز كودياً الامير القديم وهي شجرة عشتروت وعشتار ويتسع رمز النخلة لوظائف تريدها الروائية ، ذات البنية الذهنية المتشكلة من خلال تنوعات ثقافية ، اساطير ، طقوس ، فهي تعني البقاء طويلاً واقترنت بطائر الفيينق والتجدد بعد الاحتراق . كما انها مقترنة بالانبعاث والخصب كما قلت ، حيث ولدت العذراء مسيحها تحتها ، وهزت اليها جذعها وتساقط رطبها ، كما شهدت ولادة الاله الصيني الشاب ذيلين واقترنت ايضا مع الاله الفينيقي تاماز . استطاعت انعام كجة جي ان تحول ارشاك الى فنان قادر على الخلق فابتكر لها صورة حيّة ، مثيرة وبزمن قياسي ، لكن مهارة الرسام اكرم شكري اخضعت تاج الملوك وشعرت بهاجس داخلي يدنو بها اليه ، وترف روحها وتشعر بشيء سري دفين بالداخل ، يأخذها نحو الرسام الذي احست به يقترب منها شيئاً فشيئاً ، وتهفو اليه وتوشك التماس معه ، لحظة يقترب من جسدها . هو يعرف كل شيء عنها من خلال قراءة ملامحها وارتعاشات جفنيها واهتزاز شفتيها وانفراجهما . انا اعتقد بأن الروائية المبدعة انعام كجة جي وظفت بروح عالية ومهارة بنائية الفوتوغراف في اعمالها الروائية ، بحيث ،يتبدّى ميتا ـــ سرداً . لم تكن الصورة في السرد الفني طارئاً ، بل للصورة جماليات عديدة ، متنوعة ، العين وحدها هي التي تكتشف الجمال في الصورة . ودائماً ما تعتمد على صور قديمة ، تنطوي على ذاكرة ، وتتمظهر عن مرويات ، فيها التاريخ ممتد ، ماضيها ومجاورة حاضرها يقترحان سردية فياضة بالمعنى . الذي يتسع كثيراً في لحظة زمنية خاطفة ، آنية مداهمة بالطرد وسيادة القتل . هنا تتجسد التراجيديا في مرويات لم تكن هكذا سابقاً ، لان القطيعة المتحققة افضت لنوع هائل من المأساة . صارت فيها علب الكارتون ، مخازن الفوتوغراف اثمن ما تأخذه العائلة ، لأنها مطرودة قسراً ولا تريد مغادرة ذاكرتها في بغداد ، فقررت التشارك مع ما كان حاضراً قبل عشرات السنين في الطرد . وحتماً اشركت بالمحنة من ظل في المكان .

شارك الخبر على