السيستاني مرةً أخرى .. الفكرة والمجال

ما يقرب من ٦ سنوات فى المدى

 سليم سوزه
بلا إستثناء، كل رجال الدين في العالم يريدون لدينهم الغلبة والسلطة على المجتمع. ذلك لأنه المنهج الحق والصحيح بالنسبة لهم. هذه هي وظيفتهم. لكن هناك من رجال الدين مَن يفصل بين شخصه وبين وظيفته تلك. الوظيفة هنا فكرة والشخص مجال. ربما لا يتخلى أحدنا عن فكرته بسهولة لكنه حتماً يفاوض على مجاله، لأن المجال ليس لنا وحدنا بل يصنعه معنا آخرون.كتبت قبل سنوات بحثاً مبسطاً عن نظرية الخيار العقلاني Rational Choice Theory وعلاقتها بتوجهاتنا الدينية. هل ثمة خيار عقلاني في أن يصبح المرء متديناً؟ كان من بين رجال الدين الذين إلتقيتهم ليجيبوا على بعض أسئلتي راهباً أبوستولكياً شاباً. حين سألته عن رأيه بالعلمانية في أميركا، أجابني الراهب الشاب إجابة ذكية وقال أنا "الشخص" علماني وأدعم فصل الكنيسة عن السياسة، أما أنا "الراهب" فلا أجد غير الدين مصلحاً لحياة البشر. أحتفظ برهبانيتي داخل جدران الكنيسة فقط، لكني أكون مع علمانيتي خارج أسوارها. إنتهى.هذا الراهب نموذج لرجل الدين الواعي الذي يفصل بين وظيفته وشخصه، أي بين فكرته ومجاله. ربما هو ليس مؤثراً (بقدر بابا الفاتيكان مثلاً) لكنه يعبر عن رؤية لم تعد فريدة في عالم يشاطره الآلاف من رجال الدين الرؤية ذاتها.كثير من العلمانيين المتشددين لا يختلفون عن المتدينين المتعصبين في الخلط بين الفكرة والمجال. يحاكمون الفكرة على انها مجال يمكن الاستغناء عنه. ينسون او يتناسون او حتى ربما يجهلون ان العلمانية نفسها مجال إشكالي Problem-Space بتعبير الانثروبولوجي المصري حسين علي أگـراما.المجال الإشكالي توصيف يطلق على "سيستم" ليس بالضرورة ذا مسار خطي، وانما حصيلة مجموعة مركبات معقدة تتصل بعضها ببعض ميكانيكياً. فلربما الزمن المثالي الذي نصل به البصرة من بغداد سبع ساعات بالسيارة، لكنه حتماً يعتمد على مركبات أخرى كنوع تلك السيارة وعدد التوقفات مثلاً. ذات المجال الاشكالي هنا يقع على الظواهر الاجتماعية والسياسية. لنأخذ العلمانية مثالاً، رغم أن النقاش فيها صار مملّاً لفرط إجترار الشروحات المستهلكة نفسها.العلمانية مجال إشكالي مركبّه الأهم هو الدين، إذ بلا دين لن يكون هناك وجود لهذا المفهوم أصلاً. العلمانية ليست فكرة موازية للدين وانما مجال إشكالي يحاول تحييد الدين عن السياسة العامة للدولة، وهو بهذا يستوعب الدين معه ضمناً ولا يحاربه. بمعنى آخر، لا يخاصم الدين كفكرة فاعلة في المجتمع بل ينازع مجاله السياسي فقط.السيد السيستاني يفهم لعبة العلمانية ويجيدها بإمتياز. ففي الوقت الذي يحافظ فيه على "فكرته" بوصفها "وظيفة" أعلى من الدولة، يفاوض على "مجاله" بإعتباره "شخصاً" ضمن ذلك المجال الإشكالي العام للعلمانية. هو يعرف تماماً لا إمكانية للحديث عن العلمانية دون فكرته (وظيفته) فيسابق المجال الاشكالي للعلمانية بمجاله الإشكالي الخاص الذي "عمّقه" في الدولة العراقية بعد عام ٢٠٠٣، أو بالأحرى عمّقته ظروف العراق التي خدمته وصنعت منه حالة مرجعية فريدة: حالة فوق الدولة-دون الدولة. دعني أفصّل هذه النقطة الملتبسة بكلمات أخرى.بيان السيستاني الأخير حول الانتخابات والذي تلاه خطيب منبر الجمعة الشيخ عبد المهدي الكربلائي كان يشي بشيء من التنازل عن مجال السيستاني الديني لصالح مجال الدولة السياسي حين خطّ خطاً واضحاً بين الدين والدولة وأعطى الحرية للمواطنين ان ينتخبوا أو يقاطعوا الانتخابات القريبة القادمة. في هذا الفصل بين الديني والسياسي ينشأ المجال الإشكالي للعلمانية. هو مجال يقوى ويضعف حسب طول المسافة الفاصلة بين الدين والسياسة؛ يقوى كلما كانت المسافة أكبر ويضعف حين تصغر. تشبه لعبة جر الحبل، الدين والسياسة يسحبان بعضهما بعضاً، كلٌ لمجاله الخاص. بهذا الصراع المستمر بينهما تقوى وتضعف العلمانية كمجال إشكالي. السيد السيستاني فاوض على مجاله بطريقة تبدو وكأنه تنازل عن ذلك المجال وسمح للدولة (كمفهوم سياسي طبعاً) أن تتقدم على الدين. بالتالي قَويَ المجال الاشكالي للعلمانية، ولكن هذه القوة هي بشروط وإرادة السيستاني نفسه. اي إنه هو من سمح بها. هو هنا يسلب العلمانية من حيث يعطيها. صنع مجاله الإشكالي الخاص ليحتوي بها مجال العلمانية الإشكالي. فعلى مستوى "شخصه" هو داخل المجال الإشكالي للعلمانية. أما "فكرته" فهي أكبر من ذلك المجال وأوسع منه بكثير، وبالتالي فوق الدولة كلها طالما المجال الإشكالي للعلمانية كما قلنا يعتمد على العلاقة الجدلية بين مركبّي الدين والدولة (كمفهوم سياسي) ويحتويهما الاثنين معاً. بكلام مختصر، هو كشخص دون الدولة وكفكرة فوقها. هذه هي الحالة التي أسميها حالة فوق الدولة-دون الدولة.ما يهمني من هذا التحليل هو مجال السيستاني وليس فكرته (وظيفته). فلكل رجل دين في العالم فكرته التي يريدها بالتأكيد أن تسود على كل دول العالم بمؤسساتها ومرجعياتها السياسية طالما هي "فكرة ووظيفة سماوية" بالنسبة له.ما يثير العلمانيين المتشددين هي تلك الفكرة التي يحملها السيستاني وكأن المطلوب من الرجل التخلّي عن دينه او وظيفته في التبليغ لعقيدته الإسلامية. يتناسون ان للرجل أتباعاً بالملايين يريدون منه عكس ما يريده العلمانيون. فكيف التوفيق بين هذين الأمرين؟لا يمكن التوفيق بينهما إلّا بالتفاوض على المجال. السيستاني يمتلك تلك المرونة للتفاوض على المجال ويقبل بما لا يقبله مراجع آخرون، بينما يرفض الكثير من العلمانيين المتشددين هذه المرونة ويريدونه بلا مجال ولا فكرة. أتحدث عن نمط محدد من العلمانيين الذين غالباً ما أقرأ ردود أفعالهم الخشنة في مواقع التواصل الإجتماعي وهم أنفسهم غير قادرين على مناقشة او مراجعة افكارهم اليسارية او اليمينية التي تنمو تحت مظلة العلمانية. هؤلاء غير قادرين على التخلّص من فخاخ اليسار واليمين ولا يعرفون تصنيفاً آخراً يمكنه أن يكون "المجال الإشكالي" الذي ينظم علاقة الاثنين معاً في مجتمع واحد. ليس هناك يسار ويمين؛ فاليسار يلد يمينه معه واليمين ينجب يساراً بإستمرار. ما يهم هو المجال الذي يحتوي الأثنين معاً في دولة حديثة. ذلك المجال الذي فهمه الصدريون والشيوعيون جيداً حين تحالفوا في قائمة إنتخابية واحدة. عرفوا أنها المساحة الوحيدة التي يمكن التفاوض بشأنها دون أن يتخلى الطرفان عن فكرتهما.أتركوا السيستاني كفكرة فوق الدولة، فهو لن يتخلى عن فكرته الخاصة تلك مثلما لا تتخلون أنتم عن فكرتكم. إهتموا بالسيستاني الذي يقدم نفسه كشخص دون الدولة. فهو النقيض المرن الذي يصنع المركّب الثاني المطلوب في المجال الإشكالي الواسع للعلمانية.

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على