غواية القراءة من الآن سأمضي لأحتفل بكل ما أراه أو أكونه

ما يقرب من ٦ سنوات فى المدى

|       23         |
 علي حسين
إن الكتب هم الأصدقاء الأكثـر هدوءاً واستمرارية، هم المستشارون الأكثـر قرباً، والمعلمون الأكثر صبراً.
إليوت
هل القراءة سبب لأن تمتلئ حياتنا بالكتب، يكتب اندريه مالرو :"ليس هناك كاتب دون مكتبة"في القرن الثامن عشر كان لورنس ستيرن قد كتب رواية"حياة وآراء حضرة المحترم‏، السيد ترسترام شاندي"وفيها أراد أن يروي لنا المزيد من الحكايات، حتى إنه قام باقتباس فقرات من عشرات الكتب التي قرأها، ليتنقل من سيرفانتيس الى سويفت ومونتاني ورابليه، ونجده يتعامل مع هذه الاقتباسات والنصوص كأنها جزء من روايته، حتى أن جيمس جويس يكتب بعد مرور مئة وخمسين عاماً على صدور رواية ترسترام شاندي، إنها أقرب ماتكون الى مكتبة متكاملة.في العام 1922 يكتب الشاعر الفرنسي أراغون :"في كل ما أقرأ تقودني الغريزة بقوة شديدة الى البحث عن الكاتب وإيجاده وتفرسه وهو يكتب، وإلى الإصغاء الى ما يقوله، لا إلى ما يرويه، حتى إنني في النهاية أجد هزلية التمايزات المعتبرة بين الأجناس الادبية، كالشعر والرواية والفلسفة، كل هذا بالنسبة لي كلام".يقال إن كارل ماركس كان مغرماً في شبابه برواية ترسترام شاندي، وبقدرة المؤلف على جمع المتناقضات والإفتراضات في رواية تأخذك الى أكثر من حكاية، ولهذا قال لأنجلز إنه يريد لكتاب رأس المال أن يكون مثل رواية ترسترام شاندي، مليء بالجدل والقصص المشوقة عن الاقتصاد.من بين الكتب التي شغفت بها في شبابي كتاب ضخم الحجم، متعدد الاجزاء، أشبه بموسوعة أو دائرة معارف، يذكر مؤرخو الأدب أن مؤلفه أمضى خمسين عاماً في كتابته، يسافر ويستمع ويسجل، ثم يكتب منه فصولاً حتى تجاوزت أجزاؤه الخمسة وعشرين مجلداً، ويخبرنا ابن خلكان في كتابه وفيات الأعيان إن الصاحب بن عباد كان يستصحب في أسفاره حمل عشرة جمال من كتب الأدب والتاريخ، ولما ورد إليه كتاب الأغاني لابو الفرج الاصفهاني لم يكن بعد ذلك يستصحب غيره لاستغنائه به عن سواه.في أثناء عملي بائعاً للكتب، كانت الكتب التي تصل الى المكتبة كثيرة جداً، وكنت أصاب بالحيرة في اختيار ما أقرأه، وأسال نفسي هل أستطيع قراءة كل هذه الكتب، بالطبع لا، يكتب أمبرتو إيكو :"تزخر المكتبات الجيدة بملايين الكتب، ولو افترضنا أننا نريد قراءة كتاب كل يوم، فهذه 365 كتاباً في العام، ولو فعلنا ذلك على مدار 10 سنوات، فسنقرأ حوالي 3600 كتاب، ولو تسنى لأحد أن يفعل ذلك من سن العاشرة حتى الثمانين، فسيكون قد قرأ 25,200 كتاب وحسب".هل قرأت الأغاني كاملة؟ هل هو كتاب جيد؟ أعرف إنني حرصت على اقتنائه وهي رغبة ظلت تراودني سنوات، كلما يصل الى المكتبة جزء جديد من الأغاني، أتناوله وأذهب به الى البيت، أقرأ منه صفحات على مدى أيام ثم أتركه، وأعود إليه عندما يصل الى المكتبة مجلد جديد، لكني حرصت على معرفة تفاصيل حياة المؤلف أبو الفرج الأصفهاني، وكنت مندهشاً وأنا أقرً إنه كان يتلصص على مجالس الوزراء والشعراء والجواري والمغنيات ليحصل على معلومة جديدة يضيفها لكتابه، وإن حكايته تشبه حكاية الكاتب الفرنسي موريس لوبلان الذي كان مهتماً بدراسة علم النفس، لكنه وجد نفسه ذات يوم أمام طلب صديقه ناشر إحدى المجلات، ان يكتب له قصة مغامرات مشوقة، آنذاك أحس لوبلان بالحرج فهو لم يجرب كتابة القصة، لكنه أمام الحاح صديقه أرسل للمجلة بعد شهر مظروفاً يتضمن رواية قصيرة تتحدث عن مسافر في إحدى السفن التابعة لشركة الخطوط البحرية الفرنسية. وفي عرض البحر يتلقى عامل التلغراف برقية تقول إن على ظهر السفينة لص مشهور اسمه أرسين لوبين تحت اسم مستعار، وفي هذه اللحظة تتسبب عاصفة في انقطاع الأتصال بين السفينة والعالم الخارجي، فيعم الأضطراب في نفوس الركاب لاسيما بعد الابلاغ عن بعض السرقات فوق السفينة، ودارت الشكوك حول الرجل الغامض، الذي يلقى القبض عليه بعد وصول السفينة الى الميناء، تلاقي القصة نجاحاً كبيراً بعد نشرها، ويطلب رئيس التحرير من صديقه لوبلان أن يواصل كتابة قصص جديدة، لكن الروائي لم يتحمس للأمر ويبرر ذلك بالقول : لقد أودعت البطل في السجن، فرد الناشر بقوله :"لابأس دعه يهرب.يحدد أبو الفرج الاصفهاني السبب وراء تأليف كتاب الأغاني فيقول :"الذي بعثني على تاليفه أن رئيسا من رؤسائنا كلفني جمعه، فجمعت كتاباً صغيراً، وعرفني إن هذا الكتاب لايفي بالغرض، وسيكون قليل الفائدة ما لم استمر في تأليفه". ومثل سلسلة أرسين لوبين التي امتلأت بكم هائل من اللصوص، ورجال الشرطة، وأصحاب المتاجر، والسجناء، والباعة في الشوارع، والنساء الجميلات، إمتلاً كتاب الأغاني بكم كبير من فرسان الصحراء، والخلفاء والندماء، والشعراء، والجواري والمغنيات، والسلاطين والصعاليك، وعلماء النحو والكلام وقاطعي الطرق، والهازلين، قضى معهم أبو الفرج الاصفهاني خمسين عاما يخطط فيها أجزاء موسوعته، يقدم لنا تفاصيل حياة مئات الشعراء والمغنيين، ويتعرض من خلال ذلك لكافة جوانب العصر السياسية والاجتماعية، وكان في كل يوم يذهب الى سوق الورّاقين فيحمل الى بيته عشرات المخطوطات يراجعها ويجعل منها مصدراً لكتابه.و، يقدّم للقارئ وجبة شهية فيها شعراء زمنه والأزمان التي سبقته، ويقدّم المغنين والمغنيات وأصحاب الأوزان الموسيقية، رابطاً بين هذه الفئات الثلاث بحيث يبدو الشعر والموسيقى والغناء كما كان يجدر بهم أن يكونوا منذ البداية، فنوناً ثلاثة في بوتقة واحدة.يكتب مانغويل :"إن الرغبة في اقتناء كتاب ما لا يمكن مقارنتها بالرغبات الأخرى، بسبب إنها لا ترتبط بالأنانية أو الجشع أو الشهوة، بل إنها الدافع الذاتي لأن تكون جزءاً من شيء أعظم منك، وأن تنتمي إلى كوكبة قد تمنحك معنى حقيقياً لوجودك في الحياة، وتلك الإرادة هي التي تستكمل المكتبة التي تعبر عن كينونتنا. وإنني أتوق كثيراً لاقتناء كتاب ما، كما قد أتوق تماماً لأصبع مفقودة".*****
الكاتب الجيد هو من يستطيع أن يضع أفكاره بشكل واضح، بطريقة بسيطة وقابلة للفهم للجميع.آندي ميلر
في تلك الأيام وأنا طالب في الإعدادية، وقع في يدي عدد من مجلة الأديب اللبنانية وأنا أتصفح المجلة عثرت على مقال بعنوان"والت ويتمان وأوراق العشب"كتبه يوسف عبد المسيح ثروت.. كنت انذاك مهتماً بقراءة كتب التراث والروايات، لقد سمعت باسماء العديد من الشعراء، لكني للمرة الأولى اسمع باسم"ويتمان"، أخبرت أحد الاصدقاء بانني لا أملك الكثير من المعلومات عن مثل هؤلاء الشعراء رغم شهرتهم الكبيرة. وفي كل مرة عندما أواجه باسم جديد أردد بنبرة خفيضة وخجولة :"لم يسبق لي أن سمعت بهذه الكتب".في يوم من أيام شهر تموز عام 1858، تتوقف عربة على الطريق المؤدي الى واشنطن، ليصعد إليها رجل يبلغ من العمر سبعة وثلاثين عاماً، يملك قامة هائلة تشبه قامة عملاق، يرتدي ملابس تشبه ملابس العمال، غطى رأسه بقبعة، كان مرحاً وهو يروي حكاياته للمسافرين، وعندما قرر مغادرة العربة، بادل الركاب التحية، وعند مغادرته علّق أحد المسافرين على هذا الرجل الملتحي بقوله :"إنسان لطيف"فآجابه السائق: نعم إنسان لطيف، لكنه غريب الأطوار حتى إنه ألف كتاباً عجيباً، فسأل الراكب : وما اسم هذا الكتاب؟ فقال السائق :"أوراق العشب".ولد والت ويتمان في الثاني من أيار عام 1819 في"لونك ايلند"وهي جزيرة تواجه البحر، كان الابن الثاني بين تسعة من الأطفال، خلال طفولته تنقلت عائلته كثيراً فقد عمل الوالد نجاراً، ثم بعد ذلك جرب الدخول في مشاريع بناء صغيرة. ورغم إنه حاول أن يصبح رجل أعمال، إلا أن حلمه لم يتحقق فمات وهو مديون بسبب فشل بعض من مشاريعه، ويخبرنا الابن ويتمان أن والده كان إنساناً مستقيماً، يثق بالناس ويؤمن بالمثل الديمقراطية، ومثل هذا السلوك يتعارض مع رجل الأعمال مما أدى الى خسارته. ويعترف ويتمان إنه ورث حب الحرية عن أبيه. كان الأب محباً للكتب، وفي منزل ويتمان كان هناك على الدوام كتب تتحدث عن الأفكار الثورية. وقبل وفاته قرر الوالد أن ينشر على نفقته أول ديوان شعر لابنه الذي لم يتجاوز آنذاك السادسة عشرة من عمره..ويبرز لنا كاتب سيرته، إن الكتب التي إمتلأ بها البيت صرفته عن الدراسة حتى أن المعلمين في المدرسة أخبروا والده أن إبنه كسول جداً ولن ينجح بأي شيء، اتفق الأب مع رأي المعلمين، فقد كان يرى من العبث أن يستمر ابنه في شيء لا يحبه، وأن من الخير له أن يتعلم حرفة تقرّبه من الناس، وكان عمله الأول في مكتب محامي، وهناك استطاع أن يتعرف على نوع جديد من الكتب، بعدها سعى لتعلم مهنة الطباعة، هذه المهنة التي قال عنها إنها أشبه بالجامعة، وهي نفس المهنة التي أصر مارك توين على تعلمها أيضاً، ولعل أحب الذكريات في تلك السنوات بالنسبة لويتمان، هي تلك الساعات التي كان فيها يجلس في زاوية من زوايا المطبعة يقرأ في كتاب، منا اضطر صاحب المطبعة ان يقول لوالده :"لو أن نوبة أصابت الصبي لما تحرك"، ونراه يكتب بعد سنوات :"أنا أقرأ كي استدعي روحي"، بعدها جرّب العمل في التجارة ففشل، وحاول العودة للدراسة فلم يصبر كثيراً، وفي النهاية انحاز للأدب وقرر أن يتفرغ له.في تلك السنوات كان يولي اهتماماً لأحوال الناس، ويتمنى رؤية أميركا خالية من الفقر، ومن أصحاب الثروات الكبيرة، بدا اهتمامه بقراءة مفكري التنوير الفرنسيين فولتير روسو وديدرو، بعد سنوات سيعمل ويتمان محرراً في إحدى الصحف المحلية، إضافة الى عمله منضداً للحروف وموزعاً للصحيفة على المشتركين، في تلك الفترة بدأ بكتابة مقالات ساخرة عن البؤس، والفقر، كان يريد أن يستخدم السخرية كسلاح في معركته ضد شر الظلم والتوزيع غير العادل للثروات.في العشرين من عمره ينشر ويتمان أول عمل روائي، وقد حققت الرواية نجاحاً كبيراً إذ تمكن الناشر أن يبيع أكثر من خمسة وعشرين ألف نسخة خلال ثلاثة اشهر، وبدا لويتمان أن الطريق أمامه سالك لكي يصبح روائياً شهيراً، لكنه تخلى عن الفكرة بعد أن أعاد قراءة روايته فوجدها :"سخيفة مليئة بالمواقف المضحكة"كانت الرواية بعنوان"حكاية الأزمان"، وبعد سنوات طويلة سيتذكر ويتمان، إنه كتب هذه الرواية ليروي فيها الحياة التعيسة للشباب الذين يأتون الى نيويورك من الأقاليم للبحث عن عمل، ونجد ويتمان يوجه نقداً شديداً للاغنياء الذين استولوا على كل شيء.ويبدو أن ويتمان أدرك إن الرواية والمقالة الأدبية ليست عالمه، فعاد من جديد الى الشعر، فهو الآن في الثلاثين من عمره، وبدأ يخطط لكتابة ديوانه"أوراق العشب". في كتابه عن والت ويتمان يشرح لنا موريس مندلسن، تحول ويتمان الى الشعر، حيث يؤكد أن الشاعر أصابه ضرب من الاشراق الصوفي الذي حوله من صحفي عادي الى شاعر كبير في العام 1855 تصدر الطبعة الأولى من أوراق العشب، وكانت المجموعة عبارة عن كتاب بثمانين صفحة من الحجم الكبير، وقد نشر ويتمان إعلانا في إحدى الصحف ذكر فيه أن بإمكان أي مواطن شراء الديوان مقابل دولارين، إلا أن الإعلان لم ينجح في جذب القراء، فاضطر المؤلف الذي طبع الكتاب على نفقته الخاصة وأن يوزع العدد الأكبر من النسخ التي طبعها على الأصدقاء، وقد تحمل خسارة مادية كبيرة.وبعد عام تقوم إحدى دور النشر بإصدار طبعة ثانية أضيف إليها بعض القصائد، لم تلق النجاح أيضاً، وبقيت معظم نسخها في مخازن المطبعة وعلى أرفف المكتبات، وبرغم المقدمة التي كتبها الكاتب الشهير إمرسون والتي وجّه فيها التحية للشاعر :"أنا على بصيرة بقيمة كتابك المدهش فوجدته أعظم تحفة من تحف الحكمة، جادت بها أميركا الى حد الآن.. انا أهنئك في بداية عملك العظيم"فإن الطبعة الثالثة لم تلق النجاح أيضاً، وكسدت في الأسواق، ومنيت محاولة ويتمان الرابعة في طبع الكتاب بالفشل أيضاً. لقد نُشرت"أوراق العشب"عشر مرات خلال حياة والت ويتمان وفي كل مرة يلاقي الفشل، وإن الشاعر الذي وجه قصائده الى الشعب، وحلم بجمهور واسع من القراء، لم يتمكن خلال حياته من الوصول الى ذلك الجمهور. وإضافة الى عزوف القراء فان الشعر لم يثر أي إهتمام داخل أسرة ويتمان، فقد كانت العائلة تجد ابنها يصرف المال على مغامرات أدبية فاشلة.ويبدو ان القصائد ألهمت ابراهام لنكولن أحد أبرز الرموز الأميركية آنذاك فنجده يكتب في دفتر يومياته :"أن مجموعة ويتمان أوراق العشب ستظل من الأشعار القليلة التي تثير الانتباه لنضارتها ونظرتها المستحدثة وأشكال تعبيرها الفريدة". وفي لندن يحقق ويتمان الشهرة، فنجد كاتباً مثل أوسكار وايلد يقرر السفر لزيارة الشاعر في بيته ويكتب :"ليس هناك في عالم أميركا الشاسع العظيم هذا من أحبه وأحترمه أكثر من ويتمان"، وبعد سنوات يكتب د.ه. لورنس :"لقد وضعنا ويتمان على الدرب منذ سنوات، فلماذا لم يكمل أحد الطريق؟ لماذا لايقبل أحد أعظم كلماته؟ إن الاميركيين ليسوا جديرين بشاعرهم ويتمان".*******
في طفولته وقع له حادث مهم سيلعب تأثيراً كبيراً على حياته فيما بعد، وهو حصوله على نسخة مزودة بالرسوم من ديوان الشاعرالأميركي والت ويتمان :"كنت أذهب الى مكتبة جدي لاستمتع بقراءة القصص، وفي كل ليلة يتكرر مشهد الصيادين واللصوص والصراع حول جنية البحر، كنت مأخوذاً بالكتب، وكان كتاب ويتمان واحداً منها".أنجب الطبيب الذي يحب الصيد والعيش في الغابات خمسة أولاد، ثلاث بنات وصبيين، وقد أطلقت الأم التي تمارس الإنشاد في جوق الكنيسة على الولد الثاني اسم أرنست، وحين أصبح عمره ست سنوات قرر والده أن يعلمه أصول صيد الطيور والأسماك، أما الأم فراحت تعلمه العزف على الكمان، الوحيد الذي كان يهديه الكتب هو جده، يتذكر إنه في الثانية عشرة من عمره أهداه جده نسخة جديدة من ديوان أوراق العشب، كان الجد مهوساً بوالت ويتمان ويتذكر أرنست همنغواي ان جده قال له ذات يوم :"أريد منك أن تصبح مثل ويتمان، صوت لهذه البلاد"، وفي مذكراتها تشير أخته الكبرى الى أن صداقة وطيدة كانت تربط الصبي أرنست بجده، كان والده ووالدته اتفقا على أن يدخل ابنهما إحدى الجامعات المرموقة، ليحصل على وظيفة مناسبة، إلا أن الابن ذهب باتجاه وصية جده، فبدلاً من الالتحاق بالجامعة أخذ يكتب القصص القصيرة ويتجول بين البلدان، وتصف شقيقته لحظة وصول الطبعة الأولى من مجموعة أرنست همنغواي القصصية الى والديه، فقد كانت ردة فعلهما عنيفة حيث رمى الأب المجموعة في النار، فيما راحت الأم في نوبة بكاء، وهي ترفع يديها نحو تمثال المسيح، تسأل الله عن الآثام التي ارتكبتها في حياتها، ليصبح ابنها فظيعاً بهذا الشكل. بعد ذلك كتب الأب رسالة الى ابنه قال فيها إنه لايرغب في رؤيته بالبيت، كان غضب الأب لأن ابنه جعل من أحد أبطال قصصه مصاباً بمرض الزهري، فقد كتب الأب في رسالته :"كنت اعتقد أن تربيتي قد أوحت لك أن الناس المهذبين لايناقشون أمراضهم الجنسية إلا في عيادة الطبيب، ويبدو إنني كنت على ظلال".بعد ذلك بسنوات يتذكر همنغواي قراءته الأولى لديوان ويتمانن فيكتب عام 1924 رسالة الى الشاعر عزرا باوند :"في كل الفنون يبقى الرجل العملاق ويتمان قد بلغ طور الرجولة".وفي رسالة أخرى يكتب همنغواي :"إن الشعر والحياة هما المكان الوحيد الذي يشهد شجاعة وفن ويتمان"في العام 1942 يقول همنغواي لمراسل مجلة لايف :"إن إخلاص الكاتب للحقيقة يجب أن يكون من القوة، بحيث يبدو ما يبدعه من خلال تجربته أكثر صدقاً من أي واقع حقيقي".في بداية عام 1952، ينشر همنغواي روايته الشيخ والبحر، أصر الناشر على أن يطبع 50 ألف نسخة، قال له همنغواي إنك تغامر باموالك، إلا أن توقعات الناشر هي التي تنجح في النهاية، فقد بيعت جميع النسخ خلال الشهر الأول.. وأصبحت حكاية الصياد العجوز واحدة من روائع الأدب العالمي أربعة وثمانون يوماً ولم يمسك الصياد سانتياغو سمكة واحدة! أهو النحس الذي يطارده أم العجز.يتذكر همنغواي قصيدة ويتمان الشهيرة"المحارب القديم"والتي تتحدث عن مقاتل عجوز يحتضر، يريد أن ينهض ليعود من جديد الى أيامه الماضية :"لم أنسَ ويتمان يوماً، هذا المقاتل من أجل الحياة كان ملهمي في معظم ما كتبت"؟ في اليوم الخامس والثمانين، يقرر العجوز أن يضع حداً للنحس، فيغامر ويتوغل بمركبه الصغير في أعماق البحر بحثاً عن الصيد الكبير.يكتب ويتمان في قصيدته على لسان الرجل العجوز : فلأعدْ من جديد الى أيامي بالحرب، الى الرؤى والمشاهد الى تشكيل خط المعركة.فامنحوني من جديد حياتي في المعركة الوحشية القديمة.ومثل بطل ويتمان يقرر سانتياغو البدء بمعركة وحشية لتغيير هذا الفأل السيئ الذي يطارده، لا تطول به المغامرة حتى تبتلع سمكة مارلين الطعم. إلا أن ضخامتها وقوتها، يخلقان له مشكلات ومفاجآت غير محسوبة.. لكن سانتياغو بدا، معها، مصمماً على ألا يتركها تفلت، فيربط خيط الصيد بجسمه. ويشرع يشدها ويجذبها إليه.. ولم تكن النهاية هنا مثلما يتوقعها القارئ بأن تستسلم السمكة للشباك، فقد مرّ يومان والاثنان سانتياغو والسمكة يقاومان ويكافحان. فكلاهما يريد أن ينتصر في معركة الوجود. لكن، وفي اليوم الثالث تضعف السمكة، وحينها يبذل سانتياغو كل ما تبقى لديه من القوة. فيفلح في سحبها إلى القارب، ويباشر طعنها برمح الصيد، ومن ثم يربطها إلى جانب القارب. ويعكف إلى إدارة دفة المركب نحو الشاطئ.وفي تلك المرحلة، وبعد أن ينجح سانتياغو في قتل السمكة الضخمة، تظهر أمامه مشكلة جديدة. إذ يجذب خط الدماء الذي تركته السمكة وراءها على صفحة المياه، أثناء مسارها، القرش، فتندلع معركة جديدة عندها، ويبدأ في قتال ضار مع أسماك القرش. لكن، من دون فائدة، ما أدى إلى نهش القرش لسمكته وافتراسه كامل جسدها بينا كانت تُسحب خلف مركب الشيخ.وفي خلالها، كان هو لا يحتمل أو يقدر التفكير على شيء غير النوم في كوخه. وعندما وصل الشاطئ في فجر اليوم التالي، لم يكن القرش قد ترك من سمكته الضخمة سوى هيكل عظمي.. فنزل الشيخ من القارب وحمل صاري مركبه على كتفه متوجهاً إلى كوخه.في الخارج، حيث كان هناك ما تبقى من السمكة،، تجمع الصيادون والأهالي وبعض السياح، حولها، يلفّهم العجب والدهشة من ضخامتها وشكلها. وتأكد للجميع اخيرا أن العجوز بامكانه اصطياد سمكة لم يستطع صياد قبله، أن يحوز مثلها.. طبعاً، جميع تلك النقاشات والأحاديث كانت تتوالى أمام باب الكوخ، بينما كان سانتياغو في الداخل، يغط في نوم عميق، ويحلم بمعركة جديدة.في رسالة يوجهها همنغواي الى والده يكتب :"تعلمت من ويتمان أن أمضي في الحياة مقاتلاً، وأردد معه بيت الشعر الذي كتبه : ومن الآن سامضي لأحتفل بكل ما أراه أو أكونه وأغني وأضحك ولا أنكر شيئاً".

شارك الخبر على