العنف واللاعنف جدلية الصراع الإنساني

حوالي ٦ سنوات فى المدى

 حسين سعدون
إن أعظم تحدٍ يواجه الإنسان ليس الطبيعة، بل علاقة الإنسان بأخيه الأنسان، وحتى يصل الى علاقة السلام لابد له أولاً من الوصول الى حالة السلام داخل نفسه وإنهاء حالة الجدال الداخلية وكما يقول ألد الاي لاما: (إذا لم نقم السلام في دواخل نفوسنا فلن يكون هناك سلام في العالم) عزيز القارئ تقول الحكمة (عندما تتلاقح سحب الأفكار تمطر المعرفة)، فالأفكار لها أجنحة تطير شرقاً وغرباً قبل مدة اطلعت على رسالة موجهة من داعية اللاعنف السوري الأستاذ جودت سعيد الى الأستاذ المفكر والفيلسوف اللاعنفي الفرنسي جان ماري مولر.هذه الرسالة تؤكد لنا إن الغرب والشرق ليسا مجرد اقليمين جغرافيين بل هماً أيضاً رؤى كونية وأساليب حياة.نص الرسالة: يا أخي جان ماري مولر، إن الدنيا لم تبتدئ عندنا ولن تنتهي عندنا ونرجو أن نتعاون على البر والتقوى ولا نتعاون على الإثم والعدوان، وان نحرص على التواصي بالحق والتواصي بالصبر، إن أراد الإنسان أن يكون لحياته معنى عليه أن يؤمن ان وجودنا في هذا العالم ليس عبثاً ولا باطلاً ولا لعباً.بل إن حياة الأنسان وسعادته أن يخدم قضية، وأعظم القضايا أن يتوقف الفساد وسفك الدماء، وعار كبير على الناس وعلينا أننا ما زلنا يقتل بعضنا بعضاً. (أنتهى نص الرسالة) .وهذا الكلام يؤكد وبلا شك أن العلماء والمفكرين هم أصحاب الدور البارز في الآفاق الحقيقية للحوار بين الثقافات والحضارات، وايجاد عالم خال من العنف والتمييز والهيمنة، خاصة وأن هذه النخب تملك مفاتيح البرمجة الذهنية، وقد يسأل المرء لماذا اللاعنف؟ في الحقيقة سأستعين للاجابة على هذا السؤال بما تركه لنا المؤرخ ول ديورانت في آخر ما صدر له وهو كتاب دروس التأريخ اذ يقول: الحرب أحدى ثوابت التأريخ فمن أصل (3421) عاماً من التأريخ المسجل لا توجد سوى (268) سنة بغير حرب. هذا يعني أنه مع كل دورة (14 سنة) في التأريخ كان هناك (13) عاماً للحرب وعام واحد فقط للسلام.ويذكر المعهد الفرنسي لعلم الحرب أنه بين عامي (1740) و(1974)م حدث في العالم (366) نزاعاً مسلحاً أودى بحياة ما يزيد عن (85) مليون إنسان.يبدو لي أن البشر يبدأون الحرب بعد توديع العقل والعقلانية.والسؤال الذي نطرحه بناء على كل هذه الأرقام المؤلمة.. ما فلسفة البؤس هذه؟ وهل هذا قدر لا يرد ام ثقافة مصنوعة؟هنا وكما يقال إن الأفكار هي التي تقدم الإنسان الى الآخرين أحاول وبقدر الإمكان أن أختار ما أراه أهم ما كتب عن اللاعنف اسلامياً ولقد اخترت لذلك داعية اللاعنف الأستاذ جودت سعيد وتلميذه خالص جلبي.ظل جودت سعيد في نظري آخر رجل دين يمثل أمتداداً لأسلام جيل النهضة سائراً على خطى رواد الأصلاح الديني التي بدأها الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي ثم اقبال ومالك بن نبي.. تميز جودت سعيد بنـزعته الانسانية، وظيفة المقدس هي أن يجعل حياة الإنسان أقل معاناة وإن كل توظيف للمقدس يفضي الى استلاب الإنسان ويضعه في صراع مع أخيه الإنسان، مناقض لروح الدين ومبطل لمعنى الإيمان.في عام 1965 م تقدم جودت سعيد بطرح فكري جديد لساحة العمل الأسلامي في كتاب تحت عنوان (مذهب ابن آدم الأول) يرى فيه ان الحل الأسلامي يجب ان يتبنى طريق السلام في تغيير المجتمع والسلطة، وأن نتخلى عن العنف وسيلة للإقناع والتغيير، وأنا لا اخفيكم سراً فأنني اعتبر نفسي مديناً لهذا الرجل.. جودت سعيد بالولادة الثانية لي، فأناولدت من رحم امي بيولوجياً عام 1979م، ولكن اكتشافي لعالم اللاعنف وحصول الولادة الفكرية تأخر ما يقارب (25 عاماً) .يرى جودت سعيد إن مرض العنف ليس مرض الشباب فحسب وإن كانوا أجرأ على حمله بل العالم كله مريض بهذه الجرثومة، ويحتاج أمر التعافي من هذا المرض الى حدوث انقلاب كامل في سلوك البشر، وفي إحدى المقابلات أشار الشيخ جودت سعيد إنه عندما كتب كتابه مذهب ابن آدم الأول كان همه الإعلان عن فكرة نبذ العنف ولم يكن له طمع في أن يقنع الناس بها، وأنه انطلق من الثقة بالعقل الأنساني ومن الأقرار بأن الانسان يعطي على الأقناع أكثر مما يعطي على التخويف والأكراه.وأكد على الأقناع والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والحوار والجدال بالتي هي احسن حتى يتغير المجتمع، ورأى سعيد ان تعلق المسلمين بالقوة المادية سد عليهم منافذ الفكر وحجب عن العالم الاسلامي قيمة المعرفة وقيمة الأفكار، وحال دون بلوغه الرشد معتبراً أنه آن الأوان للمسلمين الأنتقال من العصر الأسطوري الى العصر العلمي، فالفكر هو الخارق الآن وليست الصواريخ، أنطلق جودت سعيد في نبذه للعنف من قصة ابن آدم (هابيل) الذي جعل من موته تأثيراً على قاتله، أي أنه قتل بلا مقاومة كي يفوت نشوة النصر على قاتله، ولتكون عبرة للبشرية في نبذ العنف وهو ما أشار اليه القرآن (لئن بسطت الي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي اليك لأقتلك أني اخاف الله رب العالمين) المائدة 28.هذه الآراء عرضت عام 1965م وللأسف لم تلق قبولاً أو رواجاً وهي اراء فيها الكثير من النضج والعمق ولكن يبدو أن الفكر لا يؤثر على الأمم وأن الشعوب تتعلم بالمعاناة.ختاماً نؤكد أن وجود الآخر شرط معرفي لوجودنا وبه يكتمل نقصنا سئل أحد الفلاسفة ماذا تنصح الإنسانية قال الحب وتحمل بعضنا البعض وقيل الحب يزحف عندما لا يستطيع السير.. وأن العصفور الذي يغرد بالمحبة والتسامح بين الناس أجمعين هذا التغريد وحده كفيل بعودة الربيع.هذه المفاهيم سوف تعم العالم في النهاية لأنها صوت الحفاظ على الجنس البشري وكما قال الله تعالى: (فأما الزبد فيذهب جفاء وإما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال) ومن كانت له آذنان للسمع فليسمع

شارك الخبر على