الاشتراكية الفاترة

حوالي ٦ سنوات فى الشبيبة

احمد المرشدظللت لسنوات طويلة أبحث عن مصدر عبارة للدكتور «طه حسين» يقول فيها «إنما أنا أياسر- أي اجنح إلى اليسار- إلى أقصى ما أستطيع.. وهي عبارة، كان جيلنا من اليساريين يكثر من ترديدها والاستشهاد بها في أحاديثه ومحاولاته وكتاباته، من دون مصدر معلوم لنا، والغالب أننا تواترناها شفاهة عن واحد أو أكثر من اليساريين المنتمين إلى الجيل السابق علينا، ولم نعن بالبحث في كتابات «طه حسين» عن الكتاب أو المقال الذي ورد فيه هذا النص والسياق الذي قاله فيه، بسبب تضارب المرويات حول هذا المصدر، بين من يقولون إن النص ورد في محاضرة مسموعة، ومن يقول إنه تصريح أدلى به لبعض الصحف، أو أنه رد على سؤال وجهه إليه أحد القراء.. وحين ذكرت بعض الروايات، أن طه حسين نشر ذلك على صفحات مجلة «الفجر الجديد» التي أصدرها الكاتب والصحفي والمؤرخ والناقد والمذيع ورائد دراسات الأدب الشعبي «أحمد رشدي صالح» عامي 1945، 1946، بحثت عن النص في نسخة وحيدة من مجموعة أعداد المجلة، كنا نتداولها فلم أجد له أثراً، ولم أتنبه إلى أن هذه المجموعة، كانت تنقص عدداً واحداً، كان بالصدفة هو العدد الذي وردت به مقولة «طه حسين» إلا هذا الأسبوع، حين وجدت بين يدي مجموعة كاملة من أعداد «الفجر الجديد» قام «مركز البحوث العربية والأفريقية»- الذي يديره الصديق حلمي شعراوي- بتصويرها عن الأصل، وأصدرها في مجلدين يضمان ألف صفحة و41 عموداً، صدر أولها في 16 مايو 1945.. وصدر آخرها في 10 يوليو 1946، وفي مساء يوم صدوره، قام «إسماعيل صدقي باشا» بحملته الشهيرة ضد العناصر التي كانت تعارض سعيه لتوقيع معاهدة دفاع مشترك مع بريطانيا، من اليساريين والشيوعيين والديمقراطيين، وأغلق دور النشر التي كانوا يديرونها، وسحب تراخيص عدد من الصحف التي كانوا يصدرونها وكان لـ«الفجر الجديد» نصيب من ذلك كله، شمل الاعتقال محرريها وكتابها.. وشمل الإغلاق دار نشر كانت على صلة وثيقة بها، وعلى رأس الصحف التي سحبت تراخيص إصدارها، فتوقفت عن الصدور. ومجلة «الفجر الجديد» مجلة فريدة في تاريخ الصحافة العربية، على الرغم من عمرها القصير، وربما بسبب هذا العمر القصير، وهي نموذج يثبت أن الصحف- كالبشر- ليست بطول العمر فقط، ولكن - أساساً- بعمق التأثير، إذ نجحت خلال أعدادها القليلة، في أن تحفر رافداً جديداً للثقافة المصرية والعربية، يتواءم مع شعارها الأساسي «مجلة التحرر القومي والفكري» وشعارها الفرعي «نحن نجاهد لكي لا يندم أحد على» الحياة».. وكتب على صفحاتها جيل من الشباب كان عمره يتراوح آنذاك بين العشرين والثلاثين.. لمعوا بعد ذلك، وحفر كل منهم لنفسه مساراً متميزاً كان من بينهم عبدالرحمن الشرقاوي، نعمان عاشور، يوسف الشاروني، عبدالقادر القط، لطيفة الزيات، أنور عبدالملك، أبو سيف يوسف.. وعشرات غيرهم. باختصار كانت «الفجر الجديد» مجلة شبابية، حين كانت الشبوبية، هي البحث عن مثل عليا جديدة، تقود الشعوب إلى الأمام، ولا تشدها إلى الخلف، وحين كانت تعني تجديد الفكر وليس تجميده، والبحث عن رؤية تتواءم مع عالم كان يتغير آنذاك بعد التطورات الكبيرة التي شهدها خلال الحرب العالمية الثانية.. وكان ذلك ما يشغل أيضاً، العناصر المستنيرة من الجيل الأسبق، ممن قادوا حركة التجديد على مشارف وأعقاب الحرب العالمية الأولى، وكان على رأسهم «طه حسين» الذي تولى رئاسة تحرير مجلة «الكاتب المصري» وصدر عددها الأول في أكتوبر 1945، أي بعد خمسة أشهر من صدور «الفجر الجديد»، لتكون منبراً لتجديد الثقافة المصرية والعربية، وحلقة وصل بين القديم والجديد، وبين ثقافة الشرق وثقافة الغرب، خاصة التيارات الحديثة التي بدأت تبرز في أوروبا. وفي هذا السياق جاءت مقولة عميد الأدب العربي، التي كنت أبحث عن مصدرها، وعن الظروف التي قيلت فيها.. فقد افتتح «طه حسين» العدد الأول من «الكاتب المصري» ببحث مطول بعنوان «الأدب العربي بين أمسه وغده» ناقش فيه تأثير الحرب العالمية الثانية على الحياة الأدبية في ضوء ما أحدثته من تواجد قوي للشعوب، ومن تعدد وانتشار تأثير وسائط الاتصالات ومنها الطيران والراديو والسينما والصحف الشعبية، وفي أثناء استعراضه لاتجاهات التجديد في الأدب، تناول ما كان جنينياً آنذاك، ومن بينه الدعوة لتحطيم عمود الشعر، والكتابة بالعامية محذراً الأدباء من الخضوع لغواية الكتابة الشعبوية التي تفقد الأدب عمقه وتميزه وتسقطه في براثن الابتذال. ولأن معظم كتاب «الفجر الجديد» بمن فيهم رئيس تحريرها- كانوا ممن تتلمذوا بشكل مباشر على يد «طه حسين» كأستاذ وعميد لكلية الآداب التي تخرج معظمهم فيها- وغير مباشر- ككاتب ومفكر متميز، وتأثروا باتجاهاته التجديدية، فقد استثار ما كتبه اعتراض أحدهم، وهو «علي الراعي» فعلق على ما كتبه «طه حسين» في العدد 11 من المجلة الذي صدر في 5 أكتوبر 1945، وكتب مقالاً بتوقيع مستعار هو «علي الكاتب» يأخذ فيه على «طه حسين» أنه يضع الأدب الرفيع في ناحية ويضع الشعب وما ينشئه من أدب يعبر عنه في ناحية أخرى، وأن الأدب الذي اعتبره العميد أدباً رفيعاً هو أدب الطبقة السائدة، وأن هناك أدباً آخر هو الأدب الشعبي العامي، أدب المغلوبين والمضطهدين، وأن نهوض الشعوب سيخلق أدباً جديداً يعبر عن أقوى التيارات في المجتمع، وأن الأدب الرفيع في المستقبل لن يكون إلا أدباً شعبياً حقيقياً. وكان لافتاً للنظر أن «طه حسين» قد اعتنى بالمقال، وأرسل إلى «الفجر الجديد» ردا نشرته في العدد التالي، وقدمت له بعبارات رقيقة نوهت فيه إلى موقف العميد- المجيد من الدفاع عن حق الشعب في التعليم المجاني، وفي رده على المقال قال «طه حسين» إن كاتب التعليق وضعني في موضع لا يحبه، ولا يحبني.. فلست كاتباً برجوازياً وما أحببت قط أن أكون برجوازياً، وإنما أنا رجل شعبي النشأة والتربية.. شعبي الشعور والغاية أيضاً. وأضاف أنه قد يكون قد أخطأ التعبير وقد يكون الكاتب قد أخطأ الفهم.. مؤكداً أن «الأدب إذا اعتزل الشعب أو نأى عنه فقد حيويته وفقد قيمته» وأن ما قصد إليه هو أن يحتفظ الأدب بمكانه الفني الرفيع وأن يتجه مع ذلك إلى الشعب، ليرفعه إليه، لا لكي يهبط بأدبه إلى الشعب، وضرب مثلا على ذلك بأدب «مكسيم جوركي وأمثاله، فهو أدب رفيع ومع ذلك فهو متصل بالشعب أشد الاتصال.. وبالتالي فليس من الضروري أن ينحط الأدب ليصبح شعبياً.. وليس من الضروري أن يبقى الشعب حيث هو جاهلاً غافلاً. وختم «طه حسين» رده قائلاً: «للكاتب أن يصفني بما يشاء إلا أن أكون ارستقراطي النزعة أو برجوازي التفكير فلست من هذا كله في شيء، وإذا لم يكن من بد أن أبين له عن مذهبي في الحياة السياسية والاجتماعية، فليعلم أنني لا أحب الديمقراطية المحافظة ولا المعتدلة.. ولا أقنع بالاشتراكية الفاترة.. وإنما أياسر إلى أقصى ما أستطيع.! تلك هي القصة و أصلها.. وما أكثر الأسئلة التي تحفل صفحات «الفجر الجديد» بإجابات عنها!كاتب ومحلل سياسي بحريني

شارك الخبر على