في هجاء الأمر الواقع

أكثر من ٦ سنوات فى التحرير

عند منتصف ليل الثلاثاء قتلت سكتة قلبية المواطنة الفلسطينية حمدة الزبيدات، بعد دقائق من اقتحام شرطة الاحتلال منزلها في البلدة الواقعة شمال أريحا، وإلقاء قنابل الصوت في شوارع المنطقة.

لم تكن تلك الهجمة سوى واحدة من تحركات متزامنة أقدم عليها الاحتلال في مناطق متفرقة من الأراضي الفلسطينية لاحتواء الغضب من قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وكذلك لاستغلال الموقف لمزيد من اقتطاع الأراضي واعتقال الفلسطينيين وبسط السيطرة لفرض أمر واقع جديد.

صاحب هذا محاولات تخفيف ردود الفعل على قرار ترامب بآراء "عقلانية" ذهبت إلى أن ما حدث هو الواقع، ولا جديد فيما أقر. القدس محتلة أصلا، بينما  يكفي ما يفعله الاحتلال منذ اللحظة الأولى للرد على تلك الأقوال. بداية من خطاب نتنياهو الذي أعقب إعلان ترامب وسط بالونات أعياد الميلاد، والذي وصفه بالتاريخي وسبب لامتنان الشعب الإسرائيلي له للأبد، مع التأكيد أن "تحقيق السلام مرتبط بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل"، وصولا إلى القمع المجنون للتظاهرات السلمية ومطاردة الأعلام الفلسطينية، وحصار الأطفال والشبان والنساء العزل بعشرات الأسلحة والعتاد واقتيادهم إلى السجون.

في الساعات التي تلت القرار قالت وزيرة القضاء الإسرائيلي نصا: "على الفلسطينيين أن يعرفوا أن قواعد اللعبة تغيرت"، أما وزير الإسكان فأطلق مشروعا لبناء 14 ألف وحدة استيطانية، وبدأت بعدها موجة واسعة من احتلال منازل ومبان في المنطقة وإخراج العائلات الفلسطينية الموجودة فيها، مع اعتصامات تطالب بمنح المتطرفين اليهود حق الدخول إلى الحرم القدسي عبر أبواب كانت مخصصة للمصلين المسلمين، مع محاولة جديدة للسيطرة على قبر تاريخي دفن فيه عدد من الصحابة، منهم عبادة بن الصامت، تسعى سلطات الاحتلال لمصادرة أرضه منذ سنوات، عبر اقتطاع مساحات منه لإنشاء حديقة أو وضع أسلاك شائكة في محيطه.

وفي الخليل نجحت عدسة المصور وسام هشلمون في رصد ما جرى للطفل فوزي جنيدي ذي الستة عشر عاما، حين التفت حوله كتيبة كاملة لتقتاده وغمامة على عينيه ووجهه المصاب بكدمات، لكن خمسين طفلا آخرين في الخليل وحدها صحبوا فوزي إلى سجون الاحتلال، ولم تستطع كاميرات المصورين أن تسجل ما جرى لهم.

المستعربون يخطفون الأطفال والفتيات اللائي خرجن عند نقاط التماس وتحت دخان القنابل والتعزيزات الأمنية، بينما مسئولون عرب يتحدثون مجددا عن حل الدولتين وفرصة السلام التي لا ينبغي إضاعتها، وجدية ترامب في الوساطة بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

وصل الاحتلال ذروة يقينه بأن لا قوة تردعه. المنظمات الدولية مهددة بخفض تمويلها من الإدارة الأمريكية، والمجتمع الدولي مشغول بأزمات أخرى، فوصل الأمر إلى حد مناقشة تشريع يسمح للحكومة الإسرائيلية باحتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين لمساومة الفصائل عليها، واليمين الإسرائيلي لا يرضيه كل هذه التنازلات الأمريكية، ويريد المزيد.

في مقال نشرته "لوفيجارو" يقول عامي أيالون مدير الاستخبارات الداخلية السابق للاحتلال، إن الصراع العربي الإسرائيلي لم يعد يشغل بال القادة العرب، وإن الفلسطينيين باتوا يعرفون جيدا أنهم وحدهم ومتروكون لمصيرهم. بينما تقول لنا مقالات الرأي في الصحف العربية إن علينا أن نبحث فيما بعد الغضب، ونهدأ ونفكر فيما نملكه لمواجهة التطور، ويتبارى الكتاب في استعراض ماضي مواقف الأنظمة التي يؤيدونها من القضية كلاعب معتزل يستعيد أمجاده.

من الخليل وغزة والقدس كانت أجساد محمد عقل وباسل إبراهيم وياسر سكر وإبراهيم أبو ثريا كافية للرد على هذا كله، لم تكن أرقاما في البيانات الرسمية للهلال الأحمر الفلسطيني فقط. خلف كل واحد منهم حكاية، وفي حناجرهم قصيدة تهجو الأمر الواقع وتاريخًا من الإذعان، ودرس في أن الفشل مصير ما يحاك من مؤامرات وصفقات وخطاب إعلامي يحاول فرض أمر واقع، وإقناعنا بأن تلك القضية كانت موضة حان وقت هجرها والانتباه لواقعنا. ودرس آخر في أن ما توقعه مسئولو البيت الأبيض من أن هذا الغضب سيخفت ويخبو سريعًا، ربما ينطبق على العواصم العربية، لكن حاملي أعلام فلسطين لهم رأي آخر.

شارك الخبر على