تمسكوا بالحوار سواء بالفصحى أو العامية... أنطوان قسطنطين

شهران فى تيار

ألقى مستشار رئيس التيار الوطني الحر الزميل أنطوان قسطنطين محاضرة ٢٠٢٤ لمناسبة اليوم العالمي للغة الأم، بدعوة من ادارة مصنع ليبان كابل في حالات، هنا نصها:
يُسعدني أن ألبّي دعوتكم اليوم إحتفاءً باللغة العربية، في اليوم العالمي للُّغةِ الأم وأشكر من دعاني وأحيي إهتمام شركتكم الصناعية بالجانب الثقافي في مجتمعنا .ربط أصحاب الدعوة في عنوان المحاضرة بين"تاريخ اللغة العربية وتاريخ لبنان". عنوان لا يتسع الوقت للإحاطة بكل جوانبه ، لكنني سأقوم ببعض الإضاءات.ماذا تعني عبارة اللغة الأم ؟هل هي اللغة الأولى التي يسمعها الطفل منذ لحظة ولادته؟ ماذا لو كان أبوه وأمه يتحدثان أكثر من لغة؟اللغة هي اللسان اي وسيلة التخاطب بين البشر ، هي النطق قبل الكتابة، هي اللفظة قبل ان تصبح كلمة اي جرحًا على لوحٍ او ورق . لقد نطق الإنسان قبل أن يكتب، لذا ،فإن حضارة الصوت سبقت حضارة الحرف المكتوب .الاديان الإبراهيمية جعلت الله ينطق بالصوت وبالكلمة المكتوبة . الشكل الأول للتجسّد الإلهي تم باللغة فمع ابراهيم تواصل الرّب الاله بصوت ملاك ومع موسى الكليم تكلّم وكتب الوصايا . ومع محمد قرأ الملاك كلام الله على مسمع النبي . وفي المسيحية تكلّم الإله المتجسد مع الناس.اللغة إذاً ،في حضاراتنا هي أداة الظهور الالهي ونشر الأديان والشرائع ، واداة وصل لا أداة فصلٍ بين البشر . انها وعاء الحضارات نفرغ فيه وجداننا ونحفظ تاريخنا وتراثنا .
اللغة طاقة و الانسان استخدم طاقاته للخير كما للشر ، للسلم كما للعنف ونراه عبر التاريخ يستخدم اللغة أداةً تكرّس إنتصار شعب على آخر وحضارة على اخرى . فرضت القوة العسكرية لغة شعب على شعوب اخرى في زمن الحروب والاحتلالات، وتغيير الهويات. لكن اللغة وبفعل الزمن تعود فتتحول الى مصدر غنى يضاف الى مكوّنات الهوية لدى الشعب الذي فُرضت عليه ، وبذلك تستعيد معناها الإيجابي كأداة حوار وتفاعل وتواصل وتبادل ويتلاشى جانب القهر والتسلط في إستخدامها.
انسحبت جيوش اسبانيا والبرتغال من امريكا الجنوبية وبقيت اللغتان الاسبانية والبرتغالية واصبحتا أداة إبداع وتواصل .ذهب الأتراك وبقيت في لغتنا المحكية الكلمات التركية متل جزدان وأوضه وبلكي ...ولانزل نستخدم قاعدة النسبة في اللغة التركية للتعريف بالمهنة فنقول: كندرجي، بويجي، مصلحجي، قهوجي.
بالعودة الى اللغة العربية، تاريخاً وإرتباطاً بلبنان، يتفق المؤرخون أن العربية هي إحدى اللغات السّامية نسبةً الى سام الوارد ذكره في التوراة كما في القرآن كأحد الأنبياء والإبن البكر لنوح الذي نجا ومن معه من الطوفان وبنجاته حصلت البشرية على ولادة ثانية.سواء كانت القصة أسطورة أم عقيدة دينية فإن ما يعنينا هو رمزية سام أو شام بالعبرية والسريانية كأبٍ لشعوب تتشارك في ما بينها حضاراتٍ وعاداتٍ وتتشابه لغاتها وكأنها من جذر واحد.
اللغة العربية التي نعرفها اليوم هي في أساسها إحدى لهجات القبائل العربية وبالتحديد قريش. ككل لغة، بدأت لهجة محكية قبل أن تصبح لغة مكتوبة لها قواعدها في الصرف والنحو.شجرة اللغات السّاميّة تضمّ لهجات كثيرة صارت لغاتٍ منفصلة عن بعضها البعض لكنها تتشابه في جذورها التكوينية، ومنها العبريّة، السريانية، الكنعانية أو الفينيقية، الحِمريّة، البابلية، الآرامية، الحبشيّة.
بالطبع حظيت العبرية بإهتمام اليهود لأنها لغة كتابهم المقدس. وحظيت السريانية بإهتمام المسيحيين لأنها فصحى الآرامية التي تكلم بها المسيح. وحظيت العربية بإهتمام المسلمين لأن القرآن أنزل حسب إيمانهم عربياً.
في هذا الشرق الممتد من حدود ايران الى بلاد ما بين النهرين فبلاد الشام أي ما يعرف اليوم بدول الخليج العربي والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين والأردن ضمناً، تداخلت اللغات السامية التي تحدثت بها الشعوب وكتبت سواء بالتزامن أو بالتعاقب الزمني فتركت كلها بصماتها في اللغة العربية التي تطورت وتعزّز حضورها مع ولادة الدولة الأمويّة وصولاً الى زمن العثمانيين مروراً بالعباسيين .لم تسقط اللغات الأخرى كالسريانية ، لكن العربية صارت هي اللغة الرسمية لغة السلطة، الى أن حلّ زمن الخلافة العثمانية فصارت اللغة التركية هي لغة السلطة فبدأت العربية تتراجع وصولاً إلى حملات التتريك بالقوة .في جبل لبنان حيث كان الموارنة يتحدثون السريانية الآرامية لقرون طويلة ، تعزّزت اللغة العربية منذ أن شجعت كنيسة روما الكنيسة المارونية على إستخدام العربية بهدف التواصل والتبشير . وهكذا حلّت العربية مكان السريانية أختها التوأم.مع دخول القرن التاسع عشر اشتد الصراع بين سكان بلاد الشام والسلطنة العثمانية، فكانت اللغة احدى ادواته. ادّى اللبنانييون أي سكان متصرفية جبل لبنان بجميع طوائفهم دوراً فاعلاً في تشكيل الوعي العربي الرافض لإستمرار الإحتلال العثماني، ورفعوا لواء العربية في وجه التركية الطورانية. ردّة فعل الاتراك جاءت بتهجير واسع للأدمغة اللبنانية ولاسيما الى مصر . أما الأدمغة التي خاطرت بالبقاء وإن تعذّرت على اصحابها مواجهة العثمانيين سياسياً إلّا أنهم واجهوا باللغة فحظيت اللغة العربية بإهتمام بالغ وإختُتم القرن التاسع عشر بنتاج إبداعي باللغة العربية لكوكبة من اللبنانيين أدباً وشعراً وأبحاثا .
راح المبدعون يؤلفون القواميس والمعاجم ويطورون القواعد وينشرون الصحف والكتب ويؤلفون المسرحيات ويعزّزون حركة الترجمة من العربية وإليها ويساهمون في ما أطلق عليه "عصر النهضة".
على أيديهم ولد مصطلح العروبة في مواجهة مصطلح التتريك، فغدت اللغة العربية عنوان معركة التحرر من الأتراك وأداة للمقاومة في صراع الهويات .في القرن التاسع عشر تكاملت النهضة الثقافية مع النهضة الإقتصادية والعمرانية والروحية في جبل لبنان ، حتى قيل هنيئاً لمن له مرقد عنزة في جبل لبنان.
الزراعة في أوجها وتربية دود القز وتصدير شرانق الحرير، والبحبوحة والعمران والازدهار في مواسم العز.حركة الفكر السياسي والأدبي والعلمي . المدارس والجامعات مع دخول الإرساليات الغربية والمطابع والكتب ودور النشر .تعزّزت اللغة العربية واستفادت من التلاقح الثقافي مع الغرب على يد بطرس البستاني وسعيد الشرتوني وجرجس همّام والأب الياس المعلوف .حدّثها وعصرنها إبراهيم اليازجي وأحمد فارس الشدياق وسليم تقلا ومحمد تلحوق وظاهر خيرالله .رشيد الشرتوني أصدر بين 1900 و1906 مجلة الضياء في مصر وهي تعنى فقط بشؤون اللغة العربية. ويقول إبراهيم مدكور رئيس مجمع اللغة العربية في القاهرة "ما قدمه اللبنانيون للغة العربية لم يقدمه شعب عربي آخر".فقد جاء زمن تعذّر فيه على شعراء مصر ومفكريها طباعة أعمالهم في بلدهم زمن ثورة الضباط الأحرار فأصدروا أعمالهم من لبنان ورغم الفارق الكبير في المساحة وعدد السكان فإن المطابع اللبنانية تكاد توازي المطابع المصرية من حيث غزارة إنتاجها .
امّا الجامعات فساهمت في الفكر التنويري ليس في لبنان فقط بل في العالم العربي أيضًا وفي توسيع مساحة الحرية والتنوع وبالتالي تعدد الآراء والديمقراطية وتطوير المجتمعات .
في موازاة اللغة الفصحى المكتوبة تطورت اللهجات ومنها اللهجة اللبنانية، ولاسيما في الشعر فولد المنبر الزجلي وإنتشر مئات الشعراء في القرن العشرين وظهر تأثير الألحان السريانية في الشعر المنبري. كذلك نمت منذ خمسينات القرن الماضي حركة شعرية بالعامية أسست للمسرح وللأغنية وجعلت من العامية اللبنانية لغة حيّة بالمعنى العلمي لكلمة لغة، ولعل عبارة اللغة الأم تنطبق على هذه اللهجة أي اللغة التي يسمعها الطفل في بطن أمه ويتربى ذوقه عليها وتجري احداث أحلامه فيها، ويعبر عن مشاعره وعواطفه حزناً او فرحاً بها ويتواصل مع الناس في يومياته من خلالها فتترجم وجدانه.
قد يكون حان الوقت للتخفيف من الأحمال التي تثقل العربية بعيدًا عن جمود العقائد ، ولحماية لغة اللهجات الصاعدة من الشوائب ، عبر أطر يتفق عليها أهل اختصاص من لغويين وادباء وشعراء، حتى لا يصيبها ما أصاب اللغة العربية الفصحى من جمود قاتل ، جعل من قواعدها عائقاً امام تطورها .المحكيات في الدول العربية تتجه لتصبح لغات مستقلة عن العربية الفصحى، تشجعها على ذلك أدوات تواصل العصر السيبراني، فالهوّة تتسع بين العاميات والفصحى وينعكس ذلك ارتباكًا في الهوية و انفصامًا في الزمن وتراجعًا معرفيًا في وعاء اللغة العربية بالمقارنة مع لغات أخرى تقبلت شعوبها أنها ادوات حية و ليست منزلة وانها محكومة بالتطور أو التقهقر ككل كائن حيّ.
من تراه يتكلم الفصحى اليوم ؟ لا أحد . نحن فقط نكتبها.نكرّم الفصحى ولكن في عالم الصناعة والتكنولوجيا والتجارة والشركات لا أحد يمارسها أو ينشر بحوثه فيها. خطابات السياسيين تشوهها أو تحاذرها وتذهب الى لغة أقرب الى القلب والوجدان والعقل . جمال عبد الناصر كان الانموذج الابرز للمحكية الصوتية بلهجة مصر.
أي قيمة تراها الشركات أو الحكومات في إتقان الفصحى في زمن يشترط إتقان الإنكليزية.للشعوب العربية اليوم لغاتها أي لهجاتها المعاصرة التي تتحول رويداً رويداً الى لغات يتم فيها انتاج الابداع والفنون . في اللبنانية خليط من تفاعل العربية الفصحى مع الآرامية السريانية والكنعانية الفينيقية والعبرانية ومع لغات فرضها الذين حكموا لبنان من زمن الفرس واليونان والرومان والأتراك والفرنسيين، فضلاً عن لغات من إستقر في لبنان من شعوب مثل الأرمن والأكراد والتركمان . هذا الخليط اللغوي عكسه تنوع الثقافات والأديان لكنه إمتزج في خلطة جميلة انتجت لغة محكية غنية بمفرداتها . وبفعل انفتاحها على العصر راحت هذه اللهجة - اللغة تنمو بمفرداتها التكنولوجية والرقمية ، وتم ابتكار افعال من كلمات اجنبية بأوزان عربية مثل غوغل ومسّج ...
المحكية هي اللغة الحيّة، وإذا كنت قد خاطبتكم اليوم بالعربية الفصحى، فلأنني أردت أن أشارككم الإحتفال باليوم العالمي لأن الأمم المتحدة تعترف بالفصحى كلغة أم، لكنني اعتز واشعر بالفخر أن الأمم المتحدة إعترفت أيضًا بلغتنا المحكية حين أدرجت في قرار من منظمة الأونيسكو الزجل اللبناني على قائمة التراث الإنساني غير المادي ، وقالت أنه غني بالمعايير، وينتشر على كل الأراضي اللبنانية ويعزز التماسك الإجتماعي ويعطي شعوراً بالهوية الثقافية ويعزز الحوار .
أشكر إصغاءكم وأدعوكم أن تتذكروا دائماً أن اللغة أداة اتصال وتواصل بين البشر أي أننا خلقنا لنتحاور . تمسكوا بالحوار وبالتفاعل مع الآخر سواء اخترتم الفصحى أو العامية واحرصوا على توازن العقل والقلب في حواركم واحتكموا دائماً إلى القيم الانسانية .سلامي لكم والى اللقاء.

شارك الخبر على