وهم الاختلافات وحقيقة الجذور

٣ أشهر فى الإتحاد

بالإضافة إلى الأسطورة الرحبانية والسيدة فيروز، فإن لبنان على الرغم من كل معاناته وأزماته لا يزال قادراً على توليد المعجزات الإبداعية، تلك التي تتجاوز حدودَه فتعبرها لتصبح عالمية.آخر معجزات لبنان، الفنان اللبناني الشامل جورج خباز، وهو شامل لأنه يؤلف ويُخرج ويمثّل ويغني ويتعامل مع الموسيقى كمسرحي.. وحتى في لقاءاته ومقابلاته الإعلامية فإن المتعة متوفرة.ما يقودني للحديث عن الحالة الإبداعية لجورج خباز هو مقطع من مسرحية له بعنوان «إلا إذا..»، كان قد أنتجه في عام 2018. في هذا المشهد المسرحي الذي رسخ في ذاكرتي وأستحضرُه أمام كل مشهد صعب تقذفه الأخبار محملاً بصور الحرب والدم والموت، ألاحظ أن سكان العمارة التي يدور داخلها المشهد هم خليط من شخصيات متنافرة في الهويات، متناقضة إلى حد التناحر، كل شخصية لها امتدادها الطائفي أو العرقي أو الديني، وتبدو متمسكةً بجذورها حدَّ التعصب المفضي إلى الإقصائية.ويحدث أن يخضع الجميع داخل العمارة، على الرغم من كل خلافاتهم واختلافاتهم الحادة، إلى فحص المادة الوراثية (DNA)، فيتفاجأ «إلياس»، الفخورُ بمارونيته حد التعصب، أن جذوره العائلية مسلمة سنية، أما عمر السني المنحدر من بيروت، فيتضح أنه من جذور أرثوذكسية حسب الفحص الوراثي الممتد لمائتي عام سبقت.. وهكذا الشأن بالنسبة لبقية الشخصيات بما فيها شخصية «هاروت» المنتمي للأقلية الأرمنية، والذي يتفاجأ هو أيضاً أنه من أصول لبنانية هاجرت إلى أرمينيا قبل وقت طويل، ثم عادت منها إلى لبنان في هجرة معاكسة.وبالطبع فإن المشهد يدور في أجواء كوميدية فيها مسحة فانتازيا، لكنها لا تخرج عن حدود المنطق في عمقها الإنساني، فمَن يستطيع أن يثبت جذورَه باستقامة وراثية لا اختلاط فيها ولا تشابك عرقي على امتداد أكثر من مائتي عام أو أكثر؟هذا المشهد الكوميدي، العبقري والبسيط، وجدتُه في واقع الحياة أيضاً، فهناك أصدقاء أعرفهم تفاجأوا بعد الفحص الوراثي بأصولهم التي لم تكن تخطر على بال، بل خالفت قناعاتهم «العرقية» والسياسية!ربما أتعلق بهذا المشهد لأسباب شخصية متعلقة بذات الفكرة، فأنا شخصياً منحدر من أب حوراني من قرية في شمال الأردن، وأم هي ابنة مهاجر قوقازي من قرية في الشيشان!حين نتابع نشرات الأخبار اليومية بكل ما تحمله من حروب وأزمات ودماء مسفوكة باسم المعتقدات و«الهويات القاتلة»، لا يمكن إلا أن نتساءل: ماذا سيحدث لو أن هؤلاء جميعاً قبلوا الخضوع لذلك الفحص الوراثي الجيني؟ومن طرائف السياسة الحديثة ما أتذكره من أخبار قرأتُها ذات مرة، ولعل خلاصتها أن رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون، وهو محافظ يميني متعصب، خضع للفحص الوراثي ليثبت انحداره من أصول أناضولية تركية، وقد ذَكر بالفعل في مقابلة صحفية أنه يتذكره جده التركي، وهو الذي كان يرى في الأتراك عدواً لهويته «الإنجليزية»، وكان موقفه من الهجرة والمهاجرين الأتراك معروفاً للجميع!
*كاتب أردني مقيم في بلجيكا
 

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على