طه حسين ومشروع التنوير العربي

٧ أشهر فى الإتحاد

في نهاية هذا الشهر (28 أكتوبر) تحل الذكرى الخمسون لرحيل عميد الأدب العربي طه حسين، الذي شغل الساحة الثقافة العربية في العصر الحاضر أكثر من أي شخص آخر. ليس من همنا الحديث عن سيرته الخارقة التي كتبها في مؤلفه الشهير «الأيام»، ولا عن معاركه الحادة التي تمحورت حول نظريته التشكيكية في الشعر الجاهلي وكتابه «مستقبل الثقافة في مصر».. بل ما نريد أن نقف عنده هو الشحنة التنويرية في فكر طه حسين الذي يشكل، حسب اعتقادنا، النموذجَ الأبرز للشخصية التنويرية في الفكر العربي المعاصر.
لقد تفكك المشروع النهضوي التجديدي الذي بلوره الإمام محمد عبده إلى اتجاهين: محافظ تأصيلي مثَّله تلميذُه رشيد رضا، وليبرالي تحديثي عبّرت عنه كتاباتُ أحمد لطفي السيد التلميذ الآخر للإمام. وعلى عكس الكتابات التحديثية الأولى التي اتسمت بالشعاراتية السطحية والتأجيج الأيديولوجي العاطفي، كانت أعمال طه حسين رصينة عميقة، استوعبت الفكر التنويري الأوروبي بجدية ودقة.
لقد اطلع الرجل بقوة خلال فترة دراسته في فرنسا على أعمال فلاسفة الأنوار، لكنه اختار أن يطبّق المنهج العقلاني الديكارتي على تاريخ الأدب العربي، لأسباب ليست اعتباطية ولا ظرفية. كان الرجل الذي تتلمذ على مؤسس علم الاجتماع الحديث دوركايم، مقتنعاً بأن الخطوة الكبرى للتحديث الفكري في العالم العربي هي سلوك منهج الشك والتركيب الذي وضعه ديكارت في كتابه «حديث الطريقة».
ويقوم هذا المنهج على خطوتين هامتين هما: الشك المطلق الذي يُخضع كلَّ المعارف والأفكار للنقد الجذري، وإعادة بناء الأفكار على أساس الوضوح واليقين استلهاماً للمنهج الرياضي الهندسي.
إلا أن المشكل الذي واجه طه حسين في تمديده المنهج الديكارتي إلى الحقل الأدبي (وهو ما تحاشاه ديكارت نفسُه) هو استحالة تطبيق مسلك السبر والتقسيم المستمد من الهندسة على المدونة التراثية الشعرية القديمة، بما أوضحه الناقد والأديب الأردني الراحل ناصر الدين الأسد في كتابه حول «مصادر الشعر الجاهلي». بيد أن خطوة طه حسين لا تنحصر في هذه المحاولة المثيرة، بل في تبشيره بالمنهج النقدي العقلاني الذي هو في صلب التنوير الفلسفي.
وإذا كان كتاب «مستقبل الثقافة في مصر» قد أثار جدلاً واسعاً بخصوص تبنيه الواضح للهوية الغربية إطاراً للانتماء والمرجعية، فإن الأساس الذي أراده طه حسين في هذا الكتاب هو ربط الثقافة المصرية بالمنظور الحضاري الأوروبي الحديث، في سياق مقاربة تذهب إلى تداخل وامتزاج الثقافة المتوسطية العربية الإسلامية مع التراث اليوناني الروماني، بعيداً عن الرافد الشرقي الأقصى (الهند واليابان والصين).
لقد أقر طه حسين لاحقاً بأن ذلك المشروع لم يدرك الفروقَ الحضاريةَ النوعيةَ بين ضفتي المتوسط، لكنه حافظ على جوهر نظريته في أن ثمن التحديث هو التغريب الاختياري عبر اعتماد منظومة قيم كونية صالحة لكل المجتمعات، وإن كانت خلفيتها الأصلية غربية.
كُتب الكثيرُ عن التحولات الفكرية لطه حسين ورجوعه إلى الثوابت الدينية والقومية الكبرى منذ خمسينيات القرن الماضي، ولا شك في أن لهذا الرأي مسوغاتٍ بديهيةً، لكن مما لا شك فيه أنه ظل إلى آخر لحظة متمسكاً بجوهر المشروع التنويري، وإن أدرك أن حظوظَه أقوى مع الصياغة التوفيقية مع النسق التراثي بدل التشكيك فيه ومواجهته.
وعلى غرار مفكري الأنوار، جمع طه حسين بين الكتابات الفلسفية النظرية والأعمال الأدبية من تاريخ ونقد ورواية وكتابة صحافية، وأراد خلال توليه حقيبة التربية في حكومة «الوفد» أن يوجِّه الإصلاحات التعليمية في اتجاه الثورة التحديثية التي آمن بها وأراد تحقيقَها. ولقد تساءل البعضُ: هل نبذ طه حسين مشروعَه التنويري الحداثي بعد وصول جمال عبد الناصر إلى السلطة، وانساق بدلاً منه في حركية المد القومي العربي التي قادها الزعيم المصري الراحل؟
من المعروف أن طه حسين ساند بقوة الحركةَ الناصرية، وهو أول من أطلق لفظ «الثورة» على حركة 23 يوليو، كما أنه وقف مع بلاده خلال الحرب التي سميت «العدوان الثلاثي»، ودافع عن الفكرة القومية العربية والإصلاحات الاشتراكية، ولم يوجه سهام النقد للتجربة الناصرية بعد وفاة جمال عبد الناصر، على غرار كل من توفيق الحكيم ونجيب محفوظ.
لكن طه حسين انحاز إلى الجوانب التنويرية الحداثية في المشروع الناصري، مثل مجانية التعليم وبناء الاقتصاد الحديث وتحرير الفلاحين.. إلخ، ولم يكن ضمن المثقفين العضويين من حاشية النظام. وحاصل الأمر أن طه حسين ظل وفياً لمشروع التنوير في كل مراحل مساره الفكري، وإن انتهى في خاتمة حياته إلى ترجمته في الإمكانات الواقعية لعصره وسياقه.
*أكاديمي موريتاني

شارك الخبر على