الأمل الذي لا شفاء منه!

٧ أشهر فى الإتحاد

ما عاد من الممكن أن يمرّ الكاتبُ مرورَ الكرام على مشاهد العنف التي لا تنتهي على أرض فلسطين. وهذه المشاهد لم تبدأ في عام 1948، بل قبل ذلك عندما احتلت بريطانيا فلسطين عام 1918، والتزمت بوعد بلفور. ومنذ ذلك الحين ما خمد الاضطراب على تلك الأرض الخالدة بمقدساتها، والخالدة أيضاً بحروبها ودمائها. الرئيس الأميركي بايدن تذكر على الفور الهولوكوست والمذابح، وكذلك فعَل كلُّ الأوروبيين. فهذه غيرُ مسألة أوكرانيا، ولا تثير أوكرانيا من المشاعر ما يثيره المشهد في فلسطين حيث ساعدت جهاتٌ كثيرةٌ اليهودَ على الهجرة للخلاص من إبادة الزعيم النازي أدولف هتلر في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين.
لقد اعتاد الرئيس جمال عبد الناصر على القول إنها أرضٌ أعطاها مَن لا يملك إلى مَن لا يستحق. بيد أنّ المذابح الهائلة جعلت الاستحقاقَ بالتملك، السابق والحالي، مسألةً ثانوية. لم تتجاهل المؤسساتُ الدولية -والحق يقال- حقَّ أهل الأرض. كانت المسألة في البداية كيف يجري تقاسُم الأرض، لكن في الوعي الصهيوني (القومي والديني) لا مكان لوطنَين على أرض فلسطين، وهو الوعي المعروف لدى كل القوميات منذ القرن التاسع عشر: أوحدية القومية.
ولذا، وبسبب قوة المذبحة التي شهدتها أوروبا (قلب العالم) في القرن العشرين، تغلّب وعيُ الوطن والدولة الواحدة على الأرض الواحدة. وبالتدريج صارت المسألة مسألة لاجئين. ومنذ ذلك الزمن البعيد جرى التفكير لدى الدوائر العليا في الأردن باعتباره وطناً بديلاً. لكن كان هناك مَن قال: لا تجمعوا الفلسطينيين على مقربةٍ من «أرض الميعاد» فيظلوا يحنّون للعودة إليها وسط صعود أيديولوجيا التحرر من الاستعمار. ماذا نفعل إذاً بالفلسطينيين؟
لقد انتشروا بالفعل في الأردن ولبنان وسوريا، ويبقى لهم «موطن» بالضفة الغربية المضمومة إلى الأردن، وبغزة المضمومة أو المُدارة من مصر، وهذا إلى أقلية في فلسطين (التاريخية) التي لا تشكّل خطراً على الدولة العبرية (الديمقراطية)! لكن ما استقرّ الأمر على هذا النحو طويلاً لسببين: أيديولوجيا التحرير من الاستعمار، وإصرار الدول العربية على الحلّ السياسي أو التحريري وبخاصة أنه صارت لديها مشكلات لاجئين يهدد بعضها كيانَ الدولة في كل من لبنان والأردن.  
 خلال الحروب التي كانت الدول العربية تنهزم فيها ظهرت وجوه مختلفة من الوعي لدى المجتمع الدولي وإسرائيل والعرب. اعتقَدَ كثيرٌ من الإسرائيليين، حتى المعتدلون منهم، أنّ المشكلةَ الحقيقية مع الدول العربية، وليست هناك مشكلة فلسطينية ولا شعب فلسطيني (غولدا مائير)، بينما نما وعيٌ عربي ودولي بضرورة أن يكون للفلسطينيين تمثيل سياسي بعد احتلال إسرائيل لغزة والضفة الغربية والقدس عام 1967. وبدا القرار الدولي رقم 242 مائلاً لجمع هذه الجهات المحتلة حديثاً في كيان، كما بدا ياسر عرفات، الشخصية الوطنية الفلسطينية الكبيرة، مؤهَّلاً لإنفاذ هذا الحلّ الذي تجلّى أخيراً في اتفاقية أوسلو عام 1993.    
أفشل اتفاقَ أوسلو المتطرفون من الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني. المتطرفون الإسرائيليون الدينيون والقوميون لا يريدون إعطاءَ الفلسطينيين شيئاً، والمتطرفون الإسلاميون يريدون تحرير كل فلسطين! ومع تطورات كبيرة في صفوف الشعبين صار فيها الدِّين والاستيطان عاملَين رئيسيين فاعلَين، صار العنف المتبادل يسدّ الأفق، ويغذيه تخاذلُ السياسة الأميركية عبر عقدين، ليس لمجاملة الإسرائيليين فقط، بل وللاعتقاد بأنّ الإسلام الراديكالي الذي أغار على الولايات المتحدة عام 2001 لا يمكن أن يكون شريكاً في عمليةٍ للسلام.
وهكذا سار الأميركيون مع الإسرائيليين في استبدال الحل العربي (السلام مع العرب) بالحل مع الفلسطينيين!     الحرب مع غزة وعليها هي الخامسة أو السادسة منذ عام 2007، ولا نهاية في الأفق. ولدينا جميعاً، ولدى كل المحبين للسلام، الأمل الذي لا شفاء منه: التخلي عن العنف وصنع سلام لا حياة من دونه للشعبين.
* أستاذ الدراسات الإسلامية -جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية

شارك الخبر على