سؤال الماضي.. للمستقبل

٧ أشهر فى الإتحاد

كنت في مهمة عمل صحفي ضمن مؤتمر في البرتغال عام 2021، كانت جائحة كوفيد بالكاد قد انحسرت قليلا، وكان التعب «الإنساني» بادياً على كل من يمكن أن تقابله بعد إطلاق السراح المشروط عالمياً. كنا في مدينة رائعة الجمال اسمها إيفورا، والمؤتمر منعقد في أحضان جامعة إيفورا التي تأسست في القرن السادس عشر وكثير من قاعاتها ومبانيها وتحفها ما يزال يحمل تاريخ التأسيس.
في لحظة استراحة تجولتُ في قاعات الجامعة التي كانت تحفاً فنية بحد ذاتها، وفي مربع قاعات دراسية قديم، دخلتُ أحد تلك الصفوف التي يدرس فيها الطلاب حتى اليوم، وتوقفتُ عند عبارة مكتوبة بالطبشور على اللوح الأخضر وباللغة الإنجليزية، تقول نصاً: «ماذا كان يجب علينا أن نقول قبل ثلاثين عاماً؟».
تأملت في السؤال المدهش والمفاجئ، والذي تخيلتُ كاتبَه طالباً جامعياً أتعبته تداعياتُ الجائحة وبفورة تأمل غاضب خطر له هذا السؤال العبقري. السؤال حفر نفسه في داخلي، ويمكن توظيفه في أي كبسولة زمنية تخطر على البال. وأمام العقد الثالث على اتفاقات أوسلو، وتوابعها من اتفاقيات أخرى وترتيبات مختلفة، يمكننا طرح السؤال نفسه: ماذا كان يجب علينا قوله قبل ثلاثين عاماً؟
لا شك في أنه يمكننا التوسع في الإطار الزمني للسؤال، أو العمل على تضييقه، كما يمكن أن نوسع دائرة المستهدفين بالسؤال لتشمل البشرية كلها، أو يكون السؤال ذاتياً كأن يسأل المرء نفسه مثلا: ماذا كان يجب علي قوله قبل عشرين عاماً من الآن؟
السؤال وجودي عميق، وهو تكثيف لتلك الخطوة الأولى أياً كانت، وهذا ما يجعلني أعيد الفكرة التي صاغها الأديب السوداني الراحل الطيب صالح، وطرحها في أحد مقالاته الصحفية القديمة وعلقت في ذاكرتي، وكانت على النحو التالي تقريباً: لو فكّر كل واحد منا بالخطوة الأولى، لتغيرت أشياء كثيرة في هذا العالم.
السؤال حول ما كان يجب علينا قوله قبل ثلاثين عاماً من الآن يمكن أيضاً أن يتم قلبه وتوجيهه نحو الاتجاه المعاكس للماضي، أي نحو المستقبل ليكون: ماذا يمكن أن نقول بعد ثلاثين عاماً من الآن؟ الإجابة قد تكون أكثر سهولةً، أو بمعنى أدق فإن إجابة السؤال يمكن صناعتها اليوم من خلال ما نفعله الآن وما نمارسه ما نبتكره من إنجازات ونجاحات أو ما نقترفه من أخطاء وإخفاقات.. فهذا هو جواب ذلك السؤال المرمي على ناصية الزمن القادم. في ذلك الصف البرتغالي داخل تلك الجامعة في المدينة البرتغالية الوادعة جداً، قرأتُ السؤال أول مرة، وما أزال أتأمل حوله إلى الآن.
ما زلت أحب أن أتخيله طالباً جامعياً يعاني من صدمة جائحة بشرية أنهكت العالَم، فسأل السؤال الجريء الذي يجب أن يسأله العالَم كله ويتوقف عنده. لكنها كتابة بالطبشور، راحت وتلاشت بالتأكيد، وأنا سعيد اليوم أنني وثّقتها بالصورة وأحتفظ بتلك اللحظة الطبشورية حتى اليوم في أرشيفي. نعم.. ماذا كان يجب علينا قوله في الماضي حتى يكون حاضرنا اليوم مختلفاً عن كل ما نراه ونعيشه؟!
*كاتب أردني مقيم في بلجيكا

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على