فصول "الإنحدار" الفرنسي الكبير في لبنان... (ميشال ن. أبو نجم)

حوالي سنة فى تيار

ميشال ن. أبو نجم-
لطالما ارتبط إسم فرنسا ونفوذه في لبنان، بتجربتها التاريخية في تأسيس دولة لبنان الكبير. لا نناقش هنا تصورات اللبنانيين بحسب طوائفهم تجاه قبول أو رفض الكيان اللبناني، والذي تلاشى مع الوقت من دون أن ينتهي "مفعول" التصورات إزاء دوره وعلاقاته مع المحيط ووظيفته. كما أنه من الغباء عدم البناء على مصالح فرنسا في لبنان والمشرق، وافتراض أن قيم الثورة الفرنسية في "الحرية – المساواة – الإخاء" هي المحرّكة لسياسة إداراتها وأنظمتها تجاهنا. لكن السؤال يبقى في "الإنحدار" الكبير في صورتها اللبنانية، على ما وضع الصحافيان جورج مالبرونو وكريستيان شينو عنواناً لكتابهما الذي كشف تفاصيل مذهلة عن الإرتباط بين فساد منظومة التسعينات في لبنان، وبين مجموعات فاسدة في الإدارة الفرنسية. أساساً سبق للمفكر الكبير مارسيل غوشيه أن تحدّث مطولاً عن أزمة فرنسا العميقة الداخلية وتأثيرها على دورها الدولي، في Le Malheur francais. ليس للبنانيين شأن في هذا...
كل من يتحدث عن الإحتلالات والسيطرة المتعاقبة على لبنان، يمتلك في مكان ما، امتناناً للإنتداب الفرنسي. في النتيجة يبقى استعماراً، لكن جوانبه المفيدة والتأسيسية للدولة وإداراتها وتشريعاتها، ظاهرة في أذهان اللبنانيين. أخذوا مصالحهم، لكن أعطوا، على عكس غيرهم من القوى والتظيمات التي مرّت على أرض لبنان. وبعيداً من نظرية "الأم الحنون"، بقي الدور الفرنسي على المستوى الدولي، ملجأ للبنان الذي تتناتشه القوى المتصارعة، من تدمير الطائرات في بيروت 1968 إلى الموقف المعنوي في "حرب التحرير"، وصولاً إلى "تفاهم نيسان" ومساعدة الدولة اللبنانية بقيادة الرئيس ميشال عون على إنقاذ الرئيس سعد الحريري في خريف 2017. لكن، مهلاً... استذكار التحول الفرنسي نحو الأسوأ، ليس مرتبطاً بالأشخاص على تأثيرهم، بقدر ما هو ناتج عن هذا "الإنحدار" نفسه في مقاربة الإدارات الفرنسية لدورها العالمي. فهل يمكن تخيّل مثلاً المقارنة بين العظمة الديغولية في الموقف من إسرائيل، وحتى موقف ميتران المعنوي في "مسألة الشرف"، بتحول أروقة فرنسية إلى بوقٍ للفساد اللبناني؟ذات يوم وقف جاك شيراك في مجلس النواب ليعِظ بشرعية السيطرة السورية على لبنان آنذاك. ولو كان ذلك ناتجاً فقط وحصراً عن "شيراكيةٍ" عربية بدأت مع صدام حسين ومفاعله النووي ووصلت إلى ذروتها مع رفض اجتياح العراق، لأمكنَ الإحتفاء بهذه الإيجابية بدعم مواقف عربية محقة في وجه إسرائيل. لكن البصمات المالية من خلال الموفدين و"المندوبين الساميين" اللبنانيين في شوارع باريس ومناطقها الفخمة، كانت أقوى من "الشيراكية العربية".
بدأ "الإنحدار" الفرنسي في لبنان، ويتواصل. اللبنانيون، يريدون دولةً، وإصلاحاً حقيقياً، وسياسات مالية جديدة على أنقاض من صنع الإنهيار الكبير. والفرنسيون من دوكان إلى دوريل يتحدثون عن الإصلاح وبناء الدولة. لكن كيف يستقيم القول مع الفعل حين تخوض أروقة في الإدارة الفرنسية، معركة كبرى كأنها "نورماندي" أخرى، لمحاولة إيصال مرشح هو في صلب منظومة التسعينات ومرشحها الأمثل لإعادة تجديد شبابها وهي العجوز الهرِمة؟ المصالح هي التي تجيب عن هذا التحول الكبير سلباً، من دولة مساعدة، إلى إدارة تؤذي مصالح اللبنانيين وغير عابئة بقرارهم الذاتي.
هذه الذاتية، في القرار وفي تقدير مصلحة لبنان هي عنوان الإستقلالية الحقيقية. وهم كفرنسيين، وكغرب في شكل عام، يعرفون جيداً أن هذا النبض لن يتخلى عنه من يحملونه لأنهم دفعوا ثمنه دماً. لربما أنهم لم يدركوا أن في لبنان هناك من لا يقبل الأوامر "السامية"، لا فرق إن أتت من غازي كنعان أو من فرنسا أو الفاتيكان. في لبنان هناك من لا يزال يتمسك فقط بمصلحة وطنية شاملة تعبّر عن اللبنانيين الذين انتفض بعضهم عن حق، في وقت يقف "الإنحدار" في السياسة الفرنسية ضد من دعمهم أساساً في مرحلة "17 تشرين"، فكيف يمكنه أن يقف اليوم وبعد كل هذا الضجيج الذي ملأ الدنيا عن "الإصلاح" و"الشفافية" و"بناء الدولة"، ليصل إلى مرحلة يتواطأ فيها مع المنظومة العميقة وينتج مرشحاً لا علاقة له بكل القدرات الإصلاحية المطلوبة؟من يظن أن دولة الفساد العميقة في لبنان هي وحدها، مخطئ جداً. على المقلب الآخر في المتوسط، وكما يقول مالبرونو وشينو في كتابهما، يستمر "نفوذ فريق شيراك على عدد من مراكز القرار الفرنسي". هناك، "دولة عميقة" أيضاً، ناتجة عن تداخل المصالح المصرفية السياسية اللبنانية – الفرنسية، ولا يمكن أحداً "إنكار ذلك".نعم، "كان هناك فرنسيون شركاء لسماسرة لبنانيين قليلي التورّع"، كما قال أحد المسؤولين اللبنانيين الفاعلين.إنه المال. إنها مصالح أوليغارشية ضيقة. إنه "الإنحدار" الفرنسي لبنانياً...

شارك الخبر على