لماذا لم يخرج المصريون؟

أكثر من سنة فى الرأى

بين من كانوا يعتبرون فوز مصر بتنظيم كأس العالم 2010 أمراً مسلماً به، ومن كانوا يستبعدونه، لم يكن أحد يتوقع أن تتوزع أصوات اللجنة التنفيذية للفيفا في اجتماعها يوم 15 أيار 2004 بواقع 14 صوتاً لجنوب افريقيا، و10 أصوات للمغرب، ليبدأ الحديث عن صفر المونديال بوصفه إنذاراً مبكراً للدولة المصرية يظهر عدم قدرة البنية التحتية أو الخبرات الفنية على احتضان مناسبة عالمية كبرى.

جرس الإنذار الذي دوى بين المصريين لم يكن مسموعاً بما يكفي في أروقة منظومة الحكم في القاهرة والتي كانت بددت جانباً كبيراً من الفرص التي تأتت لمصر بعد حرب الخليج الثانية في وهلة من الزمن استطاعت مصر خلالها أن تتخطى ولو جزئياً مشكلة الاستدانة التي جرى ترحيلها لعقود من الزمن وصلت إلى إطلاق حملة من أجل سداد ديون مصر في الثمانينيات.

للديون المصرية قصة طويلة تعود في فصولها إلى زمن الخديوي سعيد ومشروع قناة السويس، إلا أن الفصل الذي ما زال مستمراً ويؤثر عملياً على المشهد المصري يتعلق بقرار حرب اليمن الذي أتخذ سنة 1962 وأتبعته هزيمة حزيران 1967 وحرب الاستنزاف وأخيراً حرب أكتوبر 1973، وفي مرحلة حرب الاستنزاف بدأت مساعدات عربية كبيرة تتدفق لمصر بصورة دورية، وبعد الحرب بدأ الرئيس السادات يحث الدول العربية على مزيد من الإنفاق من أجل تخطي الآثار السلبية للحرب على الجانب الاقتصادي في متطلبات لم تكن الدول العربية الثرية تراها منطقية أو مبررة، وف? ضوء الأزمة الاقتصادية يمكن تفسير الرهان على السلام مع (إسرائيل) التي أدخلت مصر في أزمة متجددة مع الثمانينيات بدلاً من المن والسلوى التي تخيلها السادات وعجلات طائرته تهبط في مطار بن غوريون.

التحسن النسبي الذي تحقق في التسعينيات جرى إهداره بصورة متتابعة بعد ظهور مشروع التوريث لينصب اهتمام الرئاسة المصرية على تحضير جمال، الابن الثاني للرئيس محمد حسني مبارك، ليخلف والده، الأمر الذي أدى إلى حالة من السخط تصاعدت وصولاً إلى الذروة مع انتخابات مجلس الشعب سنة 2010 والتي أزاحت تواجد المعارضة الذي شهده البرلمان السابق من أجل التمهيد لعملية نقل السلطة.

في تلك المرحلة بدأت مؤسسة الجيش تظهر ضيقها من الظهور المكثف وازدواجية المؤسسات بين الرئيس الأب وخليفته المتوثب، وقبل ثورة يناير 2011 كان الحديث يدور عن شخص من خلفية عسكرية يستطيع أن يمثل حلاً وسطاً في المشهد المركب الذي أخذ يتشكل قبلها، وارتفعت أسهم الفريق أحمد شفيق بوصفه رجلاً توافقياً بين المؤسسة العسكرية وكان يشغل منصب وزير الطيران المدني وقائداً سابقاً للقوات الجوية المصرية.

خرجت الجماهير للشوارع ظهر يوم الخامس والعشرين من يناير 2011، ولكن الثورة الفعلية بدأت يوم الجمعة 28 يناير وهو اليوم الذي نزلت فيه مدرعات الجيش للشوارع والميادين، وتنحت في الوقت نفسه قوات وزارة الداخلية، وكان نزول الجيش وتجنب التصادم مع المتظاهرين الرسالة الواضحة للتصعيد الذي تتابع على مدى الأيام التالية وصولاً إلى إعلان الرئيس مبارك تنحيه عن الرئاسة.

ما حدث في تلك الأيام العصيبة أدى إلى انكشاف لعبة المناقلات المالية التي أدارها وزير المالية يوسف بطرس غالي لسنوات، فالوزير الذي تولى منصبه للمرة الأولى بعد صفر المونديال ببضعة أيام كان يداور المستحقات الخاصة بشركات النفط والغاز وبحيث تستمر توريداتها على الرغم من الصعوبات المالية، وهي المعادلة التي لم تعد سارية بعد الثورة وبدأت أزمة الطاقة تصبح عاملاً ضاغطاً على مصر لم تكن حكومة الرئيس مرسي وفريقه تستطيع مواجهته، الأمر الذي أدى إلى مأزق يونيو–حزيران 2013.

هذا على الجانب الاقتصادي، أما في الجانب السياسي، فقد أتى مؤتمر نصرة سوريا في منتصف يونيو والذي حضره ورعاه الرئيس مرسي شخصياً وشهد تواجداً كثيفاً للجماعات السلفية وشخصيات متطرفة حصلت على عفو رئاسي أثناء حكمه ليثير مخاوف المصريين بصورة غير مسبوقة من الطريق الذي تمضي فيه الدولة المصرية، وحتى حزب النور السلفي فقد نأى بنفسه عن التورط في مشهد الصالة المغطاة في توقيت حرج يحمل عنوان الحشد والحشد المضاد، واستدعاء جماعة الإخوان وكوادرها وحلفائها في مواجهة حركة تمرد التي ظهرت على الساحة.

بعد المؤتمر لم يكن استمرار الرئيس مرسي مطروحاً لدى قيادات الجيش، وأتى الحديث عن شخصية الرجل الذي سيخلفه، وضمن التراتبية القائمة كان وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي الرجل المطروح على الساحة، خاصة بعد أن استهلكت مرحلة المجلس العسكري الانتقالية العديد من الوجوه الأقدم منه.

يتحدث الرئيس السيسي كثيراً عن ثورة يناير وتكلفتها الهائلة على مصر، فالثورة أوصلت مصر إلى لحظة الحقيقة في مرحلة حرجة، وأوقفت مؤقتاً لعبة سير المشي (التريدميل) وبما أدى إلى سقوط جزء كبير من المنظومة، وجعلت تكلفة الإصلاح باهظة بصورة غير معقولة، ولذلك فالرئيس السيسي لا يظهر ممتناً للثورة التي كانت سبباً في وصوله إلى رئاسة الجمهورية، وهو لا يتناقض مع نفسه في هذه الحالة.

التجريف الكبير على مستوى القيادة المصرية وأجواء عدم الثقة السائدة بعد الثورة، كلها عوامل عزلت الرئيس على عكس ما يظهر وجعلته يتولى بصورة منفردة ترتيب الأولويات، والخلاف حول الأولويات وليس المبادئ كان عاملاً إشكالياً كبيراً، ولذلك ارتأى السيسي أن يعمل على ترتيب المشهد بصورة غير طبيعية لشعوره الدائم بضغط الوقت، وقرر أن يتخلص من المعيقات التقليدية التي وقفت في وجه حكومة الإخوان المسلمين، بمعنى عزل العناصر المختلفة والتركيز على مشروعه الذي بدأه من البنية التحتية.

الإعلام الموجه وتنحية المشاركة الفعالة للمعارضة كانت أسلوباً في الإدارة أظهر عدم تسامح النظام المصري مع أي معيقات تستهلك الوقت، وكثير من القرارات يمكن تصنيفها داخل رؤية السيسي لمشكلة الوقت أمامه، فاتفاقيات حقول الغاز التي رآها البعض افتئاتاً على حقوق مصر أتت أساساً لعدم استعداد مؤسسة الرئاسة لإضاعة سنوات من التفاوض، وأن الدخل الذي سيتحقق من الغاز الذي تحصله مصر في وقت قريب ستتمكن من العمل على استكمال قضية البنية التحتية الملحة وفقاً لخيارات السيسي وأولوياته.

تفاقمت أزمة المديونية مع اطلاق العديد من المشاريع، وأتى تدخل الجيش في مجالات كثيرة من أجل العمل على وجود أرضية موثوقة للتنفيذ وتوفير التمويل اللازم، ولكن ذلك أدى إلى مشكلات اقتصادية أخرى بقيت تتراكم وصولاً إلى أزمة وباء الكورونا وبعدها الحرب الروسية – الأوكرانية لتجد الرئاسة التي حاولت اختزال الوقت بكل ما أوتيت من قوة وسلطة نفسها أمام سنوات ضائعة ومكلفة، الأمر الذي أوصل مصر إلى الحديث عن ثورة جديدة، كان الرئيس نفسه يحذر منها بصورة أظهرته قلقاً ومستعداً للاعتراف بالأخطاء التي حدثت خلال فترة رئاسته.

لم يستجب المصريون لدعوات التظاهر، ولم ينزلوا للشوارع والميادين، ومهما يكون التوتر مسيطراً في الشارع، فإنه أيضاً يتمدد في الجانب الآخر في أجهزة الدولة، والإرهاق يتقاسمه المواطنون والمسؤولون سويةً، ولكن ما الذي أفشل التحرك نحو الفوضى؟ الأسباب كثيرة، وأهمها:

أولاً: المصريون يخشون من تبديد حالة الاستقرار ولا يجدون مشروعاً آخر لدى أي من المنافسين والطامحين لمزاحمة السلطة في مصر.

ثانياً: الأزمة الاقتصادية ضربت الطبقة المتوسطة وخاصة في الجهاز البيروقراطي أكثر من غيرها، وفي المقابل تمكنت الفئات الفقيرة والعاملة في الاقتصاد غير الرسمي من استيعابها، والطبقة الوسطى نفسها لا تجد بديلاً في المرحلة الراهنة.

ثالثاً: شعور واسع بعمق الأزمة الاقتصادية وعموميتها في العالم، وأن التحرك لن يسهم في تقديم حلول اقتصادية بأي شكل، وعلى العكس من ذلك، سيقطع الطريق على التحسن في مؤشرات السياحة والطموحات المرتبطة بها والقائمة على التحسن في البنية التحتية في كثير من جوانبها.

رابعاً: تراكم الخبرة لدى بعض القوى الرئيسية في مصر في التعامل مع مشروعات الرئيس السيسي وأسلوبه في القيادة، ومن أهم هذه القوى رجال الأعمال، وبعض القوى الحقوقية التي ظهرت مؤخراً.

هذه أسباب مباشرة وتوجد أسباب كثيرة غير مباشرة، ولكن كلها لا تمتلك الصلاحية في المدى الطويل، فالقناعة يجب أن تتشكل في ضرورة تحقيق بعض الإصلاحات الجذرية، ويبدو أن إعادة هيكة الاقتصاد في المقدمة وذلك من خلال إعادة جدولة بعض المشاريع المكلفة، والتوجه نحو قطاعي الزراعة والصناعة، وكذلك الانفتاح على القوى السياسية المختلفة وإنهاء ملف المعتقلين السياسيين، ويبدو أن الملف الساخن المتعلق بعلاء عبد الفتاح الذي يعتبر من الشخصيات التي ظهرت مع ثورة يناير في طريقه لينتهي بصورة تحفظ ماء الوجه للطرفين، ولا يبدي الدولة المصر?ة في موضع المستسلم للضغوط، خاصة بعد رسالة أخته التي طالبت الرئيس بالعفو عن شقيقها، وهي الرسالة التي لا يمكن إلا أن تكون بناء على ترتيبات معينة.

في قمة المناخ لم يكن مشهد الرئيس بايدن مهماً بقدر ما كان ظهور نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب الأميركي متأبطة ذراع الرئيس السيسي فيما يبدو أنه أتى بعد حوار رأته مثمراً في الملفات الحقوقية التي تشكل عنصراً جوهرياً في فكرها وأولوياتها.

أفلتت مصر من حلقة فوضى جديدة، ولكن يبقى أن يتم تصحيح المسار وجني الثمار التي ينتظرها المصريون، وخاصة بعد تخطي الأيام الأصعب والتي نتطلع إلى أن تتمكن خبراتها وتجاربها من البقاء حاضرة في ذهنية السلطة والشعب في مصر وأن تقود لعملية تحول منطقية وهادئة تتمكن من توظيف الإيجابيات وتنحية السلبيات في تجربة السنوات الأخيرة.

شارك الخبر على