«طَرابيشٌ.. وقُبَّعات»

أكثر من سنة فى الرأى

في كلّ مرحلة يقترب فيها الغربُ من الشرق، تُدفع إلى السطح مشكلات الهويات والثقافات والرموز، لتطغى بشكل فعلي على المشكلات الأساسية لجوهر العلاقة بين الغرب والشرق. ولعل الجديد فيما يُدفع إلى السطح، هذه الأيام، أنه يبدأ أولا في المجتمعات الغربية، حول الأقليات العربية والإسلامية فيها، لينتقل بعدها مشحوناً إلى مجتمعات الشرق باعتبارها المنتجة والمولدة لتلك الثقافة. فمن الحجاب، إلى الرموز الدينية، إلى الفنون وحرية التعبير، إلى صراع الحضارات والثقافات، يجري استهلاك طاقات الأمة خارج حدود الدوافع الفعلية للاشتباكات ا?جديدة بين الغرب والشرق.

بين الحربين الكونيتين الأولى والثانية، وما تلاهما بقليل، اجتاحت المنطقة العربية، خصوصا في مصر (صراع القبعة والطربوش) وسوريا (صراع البرنيطة والطربوش)، موجةٌ عارمة من الصراع حول الأفكار والرموز، تمثّلت في الجدل بين القديم والجديد، حول هوية المجتمعات في مصر وسوريا. وأغرب ما في الأمر، أن دعاة القومية المصرية، الذين تبنّوا قضية المرأة وحقوقها في المجتمع، ودعوا إلى تحريرها وتطبيق نظريات قاسم أمين، اختصروا قضية المرأة، وجعلوا «السفور» شعاراً لحركتهم، حيث اعتبروا الحجاب رمزاً لعبودية المرأة بالمعنى المادي والنفسي.?وقد شكّل دعاة تحرير المرأة منظمة أسموها جماعة «السُّفور»، حيث كان من أعضائها: (محمود عزمي، سامي كمال، عزيز ميرهم، مصطفى عبد الرازق، ومنصور فهمي). وأسّسوا جريدة اسمها «السفور» لتنطق باسم تلك الجمعية. وكانت أول مؤسسة منظمة تضع فكرة تحرير المرأة في صلب أهدافها، ثم تلقّفت الفكرة الهيئات النسائية، خاصة في عهد هدى شعراوي، التي أخذت تطالب بحقوق المرأة رسميا، وتهاجم تعدد الزوجات والطلاق السهل والحجاب. ثم انتقلت ساحة الصراع حول فكرة تحرير المرأة المصرية إلى جامعة الملك فؤاد. ومن حرية المرأة انتقل الصراع إلى قضية «ا?قبّعة والطربوش»، التي أخذت وقتا طويلاً من المصريين المشتغلين بالمسائل الفكرية والاجتماعية، منذ أوائل العشرينيات في القرن العشرين حتى نشوب الحرب الكونية الثانية. حيث اقترح بعض القوميين المصريين مجاراة الغربيين في لباسهم، وخلع الطربوش لأنه لا يناسب جو مصر الحار (!). وردّ المحافظون الشرقيون، بأنّ الطربوش رمز للعروبة والإسلام ولا يجوز التخلّي عنه (!). وحافظ هؤلاء على طرابيشهم وكَفّروا مَن دَعا إلى خلعها. وبالمقابل خلع محمود عزمي وبعض رفاقه طرابيشهم، واعتمروا القبّعات الغربية في تحدّ لمجادليهم، إلى أن انتقل الن?اش إلى الصحف. ولم يهدأ النقاش حول القبعة والطربوش إلا في أواخر العشرينيات، حين انشغل مجتمع النخبة المصرية ومناصروهم بكتاب علي عبد الرازق «الاسلام وأصول الحكم»، وكتاب طه حسين «في الشعر الجاهلي». وفي منتصف الثلاثينيات، عادت هذه الضجة من جديد وبشكل أوسع، حين تسلّم راية الصراع ضد الطربوش توفيق الحكيم، أحد دعاة القومية المصرية. وقد أعلن الحكيم الاستهزاء بالطربوش في ندواته ومقالاته ومسرحياته، وأصرّ على لبس «البيريه» الأوروبي. وظلّت صورته الشهيرة بالبيريه محفورة في اذهان الناس حتى بعد وفاته. لم يكن الحكيم وحده من?نادَى بلبس القبعة وهَجر الطربوش، بل سانده في ذلك سلامة موسى، الذي كتب مدافعا عن القبعة كرمز للحضارة الغربية. وبالمقابل، فقد هاجم هؤلاء خصومهم، وعلى رأسهم «الزيات»، وأنكروا أن يكون الطربوش عاراً على المصريين ومناقضا لحضارتهم، وان تكون القبّعة بحد ذاتها رمزا للاستقلال والتمدن والحرية.

أمّا أصل المسألة، فقد ارتبط الطربوش تاريخيا بحركة التحرر العربية باعتباره رمزا للتبعية التركية. ومن المفارقات أن الحركة ضدّه اتجهت بعد ذلك لإلغائه، حيث وُضعت مسابقة لابتكار غطاء للرأس محل الطربوش، ولكنها فشلت، إلى أن ألغي استعماله رسميا في الجيش والشرطة منذ الحرب العالمية الثانية. ومنذ منتصف الخمسينيات، انصرف المصريون وبعض العرب عن الطربوش وقضيته، ولم يحل محله غطاء له الصفة القومية الرسمية.

ما لم يتنبه له دعاة القبعة وخصومهم في حينها، أن أصل الطربوش كغطاء للرأس هو يوناني (!!). وأن الانشغال برموز الماضي وأشكاله وتحويلها إلى عناوين ومظاهر للتخلّف، لا يشفع لأحد بالهروب من المشكلات الحقيقية لحياة الناس، ولا لجوهر علاقات القوى المعاصرة، القائمة على استهداف الغرب وسيطرته على موارد شعوب الشرق المتخلّف ومقدراته.. ألا يشبه ما يحدث اليوم، من صراعات ثقافية وفكرية، ما تم إلهاء الأمة واستهلاكها به في مطالع القرن العشرين..؟!fafieh@yahoo.com

شارك الخبر على