صور النخلة في شعر علي عبدالله خليفة.. دراسة لراشد نجم (٢ ٢)

ما يقرب من ٣ سنوات فى البلاد

نشرت مجلة" أقلام عربية" الثقافية في عددها للشهر الجاري الجزء الثاني من دراسة مطولة عن الصور الشعرية المختلفة التي وردت في قصائد الشاعر علي عبدالله خليفة بقلم الأمين العام لأسرة الأدباء والكتاب راشد نجم، وكانت "البلاد" قد نشرت الشهر الماضي بعض من الجزء الأول من الدراسة واليوم ننشر بعض من الجزء الثاني:

ثالثًا: صورة النخلة الأنثى
لقد كانت المرأة وما تحمله من عاطفة تشكل محور الاهتمام ضمن تجربة الشاعر، فهي الحبيبة التي يشتاق لها الشاعر، وهي الملاذ الذي تسكن فيه انفعالاته، ومن الطبيعي أن تشكل هذه الأنثى في حياة الشاعر مكانة كبيرة يجد نفسه أحيانًا يقارنها ويشبهها بقيم وصور حوله من فرط هذا السمو في الحب ولتقريب الصورة الذهنية أمام المتلقي.. فتصبح هذه الأنثى النخلة وتصبح الوطن، وكأني بالشاعر يحاول تحقيق الحلم الذي يسكن داخله ويستكين وهج التوتر والانتظار والقلق الذي يتلبسه، وهنا تبرز الحبيبة التي شفّ الحنين إليها فحدثها صبحًا توهج فحدّث كل من حوله من ورد ونخل.. فصورة النخلة تقترب في تشبيهه من الحبيبة التي يشتاق إليها ويرسل لها تهويمة روحه في الصباح.
صباح الخير
صبح وردك الوسنان مفتون
دنا من ربه وجدًا
وشف حنينه ألقًا
توهج.. فاض.. حدث نخلة.. صلّى
بحبك هومت روحي
وشع بقلبي الإصباح
يا أندى زهور الكون، يا دفلى

ولم يخل الشاعر من لحظة الضعف والخوف التي يمر بها كل إنسان وببحث عن الأمان، وينتاب الشاعر الخوف من المجهول والحذر من المغامرة.. فهو يعترف بأنه مغامر جبان يخيفه الظلام، ولن يجد الأمان متاحًا سوى في وجود الحبيبة الأنثى التي يريدها الشاعر أن تكون نخلة الأمان حتى ولو بكت هذه النخلة على جدار الأمان، وهو تشبيه بليغ حاول فيه الشاعر الجمع بين بكاء المرأة وهو حقيقة واقعية واستخدام البكاء للنخلة وهو فعل مجازي لتكوين صورة تجمع ما بين الأنثى والنخلة في كونهما مرفأ أمان حتى ولو اتسم هذا الجدار بآثار البكاء.
حبيبتي..
أقولها؟ أم أحاذر؟
أأرقب اليمين والشمال، أم أخاطر؟
فإنني مغامر جبان
يخيفه الظلام إن أتى
وإن بكت على الجدار نخلة الأمان

رابعًا: صورة النخلة الرمز
قد تبدو صورة النخلة الرمز متكررة في شعر الشاعر علي خليفة في مواقع كثيرة من قصائده على مدى تجربته الطويلة حتى وإن كان هذا الرمز في غالب الأحيان مباشرًا وواضحًا لفظًا، لكنه عميق في المعنى والدلالة. وبالمقابل أيضًا هناك صور أخرى للنخلة قد لا تأتي بشكل مباشر ولكن ضمن المعنى تبرز بعض المفاتيح الدالة على تفسير المقاصد التي يهدف إليها الشاعر.
في كثير من قصائد الشاعر تتضح صورة الخيبة والانكسار في العلاقات الإنسانية بمختلف أشكالها، والشكوى من ظلم الوقت والناس، وقد تتحول هذه الشكوى إلى ما يشبه تحريض الذات على الصمود والتحدي من واقع معرفة الشاعر ببواطن الأمور، فتكون النخلة هنا هي الرمز لهذا الصمود والتحدي حيث هي ضاربة عروقها في الأرض يصعب على الرياح اقتلاعها، وهكذا هو الشاعر هنا صورة النخلة الرمز الدال على هذا الصمود:
لأني نخلة زرعت
ومدت جذورها في الأرض
واستعصت على الريح
لأني أعرف الأرض التي أحيا،
وأعرف باطن الأشياء،
والناس التي تسعى لتجريحي
وأعلم حال من سقطوا
وباعوا صمتهم لليل..
إن علي عبدالله خليفة، يتميز بوعي، ووعي طبقي، وبصر بالواقع الذي يعاينه ويعانيه، نافذ. لذا فإنه يحاول أن يكشف عن هذا الوعي في شعره، بل يحاول أن يكون جدليًا - أو هكذا يبدو. وهذه صفة افتقدها الشعر العربي ما بعد الخمسينات وبهذا القدر من الوضوح، حيث سيطرت روح التجريب والإثارة وتشتيت الرؤية إلى الأشياء في علاقاتها الطبيعية، أو في المنظور الشعري.
أما د. علوي الهاشمي فيقول عن استخدام النخلة الرمز في شعر علي عبدالله خليفة ومن أجمل ما قاله علي خليفة متوحدًا مع النخلة، هذه الصورة التي ظلت شخصية الفلاح رغم ذلك غائبة عنها.
فاعترى قلبي شعور النهر،
حين النهر تضنيه عذابات الغرين
فتسرًبت، أتيت الهاجس المغرم، كانت
عينك المجروحة الهدب سماء
في تباريح الظمأ
أما الشاعر علي عبدالله خليفة فيكمل صورته الرمزية في مساق الشعر الشعبي بنفس التحدي حيث يهدي ديوانه " عطش النخيل" إلى (النخيل التي تنبت فوق الظمأ وشراهة الملح) بموال عن النخلة يتوحد فيه الشاعر مع هذه النخلة التي مازالت تعطي من نفس الأرض التي زرعت فيها ويعيش عليها الشاعر حيث يتشابه معها في العطاء والوفاء والطيبة، فقد استخدم الشاعر النخلة بكل هذه الرموز ليدلل بها على أن الشعب البحريني مثل هذه النخلة في طباعه وصفاته.
يا نخـــلةٍ شـيّــــبت تمـــلي عطاها سدود
إحــنا انزرعــــنا وعشــــنا في ثــــــــراج ســــــدود
لا هــــمّ حــر الظـــما ومــاي الرجـا مسدود
إحـــنـــا شــــــربنــا الــــوفـــــــــا مــــــن كاســــــــكم وافي
طـــــيبـــــج مــــع حـبــــنـــــا في الأرض مـــتـــــــــــــوافي
والــزرع ليمــــن نبــــــت في أرض الحــيــا وافي
يا غارسٍ في الصبخ، تالي الغوارس دود
يقول الشاعر عن تجربته في الموائمة بين الفصحى والعامية " لقد مر تكويني الثقافي، الذي هو عدة تجربتي الشعرية، بمحطات حياتية كل منها حفر في ذاكرتي ما أراد وأسلمني إلى محطة أخرى. والذي يعنينا هنا منها محطتان مهمتان جاءتا عند بداية حياتي وأنا طفل دون السادسة من العمر. هاتان المحطتان الأوليين متداخلتين، وأجدني لا أعرف الآن أيهما تسبق الأخرى، فكأني وأنا فيهما قد وضعت رجلًا هنا ورجلًا هناك في آن واحد، وهما محطتا الفصحى والعامية

شارك الخبر على