قراءة في "يوميات أخصائية اجتماعية" بعنوان "خلاصة الكلام في قصص فاطمة النهام"

ما يقرب من ٣ سنوات فى البلاد

بداية أجدني واقفة على بوابة كتاب تدب فيه روح باتساع سماء  وحروف بصدق نبي،لغة فصيحة وأسلوب شيق ينم عن ثقافة جمة وقراءات متعددة لكاتبة غير عادية.

أشد ما يميز أدب الكاتبة بما يلفت النظر تأثرها بالأدب العالمي التي تجد أسلوبه واضحًا جليًا ما بين سطورها ،كما تأثرت الكاتبة بالروايات العربية ولا سيما الكتاب المصريين حيث قرأت منذ طفولتها في الأدب المصري ولا سيما أدب ما وراء الطبيعة وتجدها أكثر تأثرًا بالكبيرين  :أ.أحمد خالد توفيق وأ.نبيل فاروق ،بينما ركزت في هذه المجموعة على حكايات كتبتها في جدار قلبها أولًا ثم أعادت صياغتها على الورق. اختارت الكاتبة لها شخصية تروي لنا القصص على لسانها وكانت الشخصية مثالية وهي(ميساء جاسم) التي عملت بحقل التربية والتعليم  وكانت ميساء كبحق  (الشمعة التي لا تنطفىء).

سردت الكاتبة في مجموعتها بعضًا من تجارب شخصية عاصرتها وعايشتها شخصيًا ولكن ألبستها ثوبًا أدبيًا مطرزًا بتبر الخيال ونظمتها كحبات اللؤلؤ المنضود بين جنبات كتابها الجذاب.

تميزت العناوين بثوب الحقيقة الخفية اللا مرئية والتي لا يتأملها سوى هؤلاء الذين يعملون في الظل ولكنهم نجوم تهدي الحائر ين الضالين إلى سواء السبيل دونما أن يشعر بهم أحد أو يرى كم المجهود الذي يبذلونه لإسعاد من حولهم. ذلك في كتاب أنيق ذو غلاف متقن الصنعة برسومات رسمت بألوان المشاعر.

كانت البداية مع لفظة  (الاغتيال) ذلك العنوان الذي يشي بذلك القدر  الذي يعانيه بعض الناس الذين نفضت الكاتبة الغبار عن  مرآة حياتهم المظلمة، الذين بدأتهم بأحد ضحايا  الظروف كعشرات قابلتهم خلا ل مسيرتها العملية التي آثرت أن تظهر في صورة المرشدة المتقاعدة التي ابتعدت عن ذلك الحقل الممتع المرهق حقل التربية والتعليم.

وأرى أن في ذلك التصور لنفسها بالعزوف عن حياة العمل والركون إلى حياة الوحدة والسكون إيحاءً بما يدور في خلجات نفس الأديبة وحلمها بأن تصل إلى تلك المرحلة التي تتفرغ فيها فقط للتأمل والاستمتاع بالراحة والهدوء الذين رمت إليهما بالتكرار في قولها:(كم يعجبني سكون الليل......)مما في ذلك من أحلام تراودها بأن  تتفرغ للكتابة ،وتذوق سعادة الكاتب الذي يعشق قلمه.

ترى الكاتبة قد برعت في أسلوب السرد الوصفي الذي يضع القارىء أمام مسلسل تلفزيوني مختلف الحلقات يشهد مشاهده واحدًا تلو الآخر فيكاد يسمع صوت الجرس المدرسي ويقف بجوار الطلبة في الفناء يشهدها وهي تتنقل بين الصفوف تتأمل الأجواء في صمت يضج بالبحث والفضول حول الوجوه وردود الأفعال لتصل إلى أحدهم ممن ينزوون أو يحيدون بطريقة أو بأخرى هروبًا من الواقع المرير في أشد الحاجة ليدِ  عونٍ تمتد لإنقاذهم من الغرق في براثن الضياع.

كما وجدتُني تارة أخرى عند (وردة القلب )أمام مشهد (منودراما )نادر ،فكانت الكاتبة كأنها أمامك على المسرح تمثل كل الأدوار وتبرع في كل دور إلى أن أسدل عليها الستار ،ما يجعلك تتعاطف مع طيبة قلب ميساء أكثر من تعاطفك مع ضحايا القصة مما يدلل على مهارة الكاتبة وموهبتها المتفجرة ،وطبيعيتها ،وتوحدها مع الشخصية ، ووقع أثرها في نفس قرائها.

أكثر ما جذبني لدرجة أن خفق قلبي أثناء القراءة عندما وجدت بعدها جملة الكاتبة :( خفق قلبي وأنا أستمع إلى الحوار…) أحسست عندها بإحساس (ميساء )بالضبط عندما أسمعتني بجدارة الحوار التلفزيوني بصوت الكاتبة الصغيرة (فاتن)والتي صادف أن فتحت ميساء التلفاز  ووجدتجها في  لقاء تلفزيوني تهديها فيه كلمة خاصة بها.

ميساء التي كانت السبب في نبوغ تلك التلميذة الموهوبة وتشجيعها حتى أصبحت كاتبة روايات  بارعة في النهاية. هذا وقد نجد الجمال والخيال قد تسلل في كل صفحة من صفحات تلك المجموعة الجاذبة بأسلوب الكاتبة الفنانة التي أضفى أسلوبها الرقيق على الكتا ب روحًا من الجمال وخفة الظل التي تسير بالقراء نحو رصيف المتعة فلا يشعر ون بالملل مع الانسيابية والتدفق وتسلسل الأفكار والأحداث . كما أننا لا نستطيع إغفال الثروة اللغوية التي تتجلى ما بين السطور وتنضح بمكنونات صدر  ضم الكثير من الكتب المقروءة والثقافات المختلفة والغير تقليدية. تنشِق شدى الخيال يطوف بك أثناء رحلتك مع القراءة في العديد من الصور الجمالية الخفيفة والغير متكلفة مثل:

أنا السلم ومرساة النجاة
السماء..........ثوبها المخملي
تنساب الذكريات
الليل هو الصديق  .....يستمع.....دون مقاطعة
سكين المرارة
بنت شفة
صنبور المياة .. .....كما تتصبب معه ذكرياتي
أشعةالشمس تداعب وجهي
قلبي يغرد.إلى آخره.
كما أنه لم يخل العمل من إبراز الحكمة التي ترمي إلى قولٍ  مؤداه أن من زرع حصد .
وخاصة في حقل التربية والتعليم الذي تصف الكاتبة أغواره  العميقة التي يغفلها الكثيرون ،فليس في الكون أجمل مما يجنيه  من يزرعون في ذلك الحقل من حصاد القلوب والعقول  والأنفس التي تقف لهم احترامًا وحبًا وإجلالًا في كل مناحي الحياة طالما أخلصوا للرسالة.
فكما قال الشاعر:
أرأيت أعظم أو أجل من الذي
يبني وينشيء أنفسًا وعقولًا
ترى ذلك واضحًا  في قصتها(شمعة لا تذوب)حيث ترسخ القول السائد بأن الأيام دول ،وأنه من يتق الله يجعل له مخرجًا ،فها هو القمار بدل حال الأسرة الثرية إلى أسوأ حال.
كذلك في إشارتها في موضع آخر  إلى عوض الله عند البلاء، وكذا عن قيم الحب والإيثار ،وجمال البر والعطاء ،ورد الجميل ،وغيرها من القيم التي وجب على الأديب أن يوظفها في أعماله ليكون بحق رسولًا للبشرية.
كما أن ثمة نفحات من الثقافة والعلم وقواعد الدين الحنيف  مما لن يفوتك عند القراءة فيما حرصت الكاتبة على نثرٍ لبعض المعلومات الإثرائية الشيقة لتوشي بها قصصها مما يضيف لمن يقرأ نفحة أخرى بخلاف متعة القراءة. نجد ذلك في مثل  إستعانتها بالحديث النبوي الشريف وكحديثها عن نيركسوس والنرجسية في الأساطير اليونانية التي أجدها متأثرة بها كثيرًا، وإشارتهاإلى الكاتب الفرنسي( ڤيكتور هوجو )عن معاناة المجتمع الفرنسي بعد سقوط نابليون في روايةالبؤساء ،وديوان أغاني الحياة لأبي القاسم الشابي ،روايات نوال السعداوي ، وغير ذلك مما يعكس قراءاتها وثقافاتها وتنوع واختلاف مشاربها.
وكذا في تناول تسمية الشهر آب،وشباط، وفي غير ذلك كمما أثرى النصوص وأضاف إليها وإلى القراء .
شاقني استعراض مايروقها من قراءات وثقافات وكذا الفنون والفنانين ذكرت منها أسماء أعشقها بدوري
،أسماء تنم عن ذوق راقٍ وأصيل  من هذه الأسماء: عبد الحليم حافظ وعمر خيرت وغيرهم .
ثمة مآخذ طفيفة لا تذكر بجوار ذلك الفيض من الإبداع ففي بعض الأحيان مثلًا طغت اللهجةالدارجة على الفصحى في بعض الألفاظ في مثل :
يضل= يظل
أسقيتها= سقيتها
تشع فيني= تشع فيّ
أعلم انك لوحدك = أعلم أنك وحدك
أو الخطأ الإملائي  أو المطبعي البسيط في الهمزات وماشابه مما يشيع فيه الزلل في كثير من الكتب والمطبوعات ويجب أخذه في الاعتبار مثل:
دفىء = دفء
الاخر= الآخر
احداهن = إحداهن
واشحت = وأشحت
الم يكن = ألم يكن
الارشاد = الإرشاد
لهاذين = لهذين
متوجة  = متوجهة كما أنه تكرر الخطأ أكثر من مرة بتكرار علامة التعجب وهذا غير مفضل.
أخيرًا أتمنى أن نقلل  من الاستطراد والسرد التفصيلي المطول (الإسهاب)كما في بعض الفقرات في مثل قصة (أبي الحبيب) وكذا وجدنا ثمة مباشرة لو تخطيناها في قصة (شمعة لا تذوب)حتى تكتمل اللبنة وحتى  يتماشى ذلك مع روعة المجموعة القصصية الجذابة الشيقة  التي أبكتني قصة الختام في أكثر من موضع مما يدل على  صدق إحساس الكاتبة ومهارتها الإبداعية . هذه هنات لاتذكر -وإن ذكرت -فمن باب أنه  يمكن تداركها في الطبعة القادمة للمجموعة.

في النهاية:
لا نغفل قلب ميساء الرحيم  في لفت النظر إلى أن القلب الحنون والمرأة المثقفة عندما تكون أمًا :ترى مثل (فاطمة النهام )والتي آثرت أن تدرج اسمي بنتيها الفنانتين (أسيل وأمل خالد )اللتين رسمتا بفن وإبداع كل رسمات الغلاف والصفحات الداخلية لمجموعتها الجميلة لتدفعهما دفعة ذكية حنونة وحكيمة ذكرتني بقول  شاعر النيل حافظ إبراهيم :
الأم مدرسة إذا أعددتها
أعددت شعبًا طيب الأعراق
كما استحضرت معها هنا قول أمير الشعراء أحمد شوقي إذ يقول:
وإذا النساء نشأن في أميةٍ
رضع الرجال جهالةً وخمولا
ها هي ميساء (فاطمة) الأم الحنون المرشدة الحكيمة الكاتبة الموهوبة تضرب لنا أجمل الأمثلة للمرأة العربية المتدينة المخلصة المثقفة التي اجتمعت فيها خصال نتمنى أن يديمها عليها رب النعم التي حباها إياها وعلى فنانتيها الصغيرتين. لن أنسى أول لقاء ونقاش بيني وبينها و كنت أرى نهمها بالقراءة  عندما اقترحت عليها الاختلاط بمجتمعات الأدباء والتعاطي معهم لأن الاحتكاك بهم يزيد الخبرات ، والقراءة أكثر تصقل الموهبة فما لبثت أن انطلقت في فضاء القراءة والكتابة بمنتهى الشغف والصدق  والإخلاص لمشروعها الأدبي ومن يصدق الله يصدقه .
ولأنها تمتلك موهبة حقيقية ومتميزة  لا يختلف عليها اثنان أجدها انطلقت بشكل منقطع النظير يؤكد مدى مهارتها وتمكنها ومدى صدقها مع حلمها. نشد على يدي الكاتبة الرائعة ونتمنى أن تمتعنا  بالعديد من الكتابات الشيقة التي تسوقنا إلى أرض المتعة والجمال بجدارة. أثق في قدرات خلاقة وطاقات لا محدودة من الإبداع في جعبتك أديبتنا المتميزة.

شارك الخبر على