تطويق العهد هدف واحد منطلق من سعد إلى أشرف وبهاء ومن السعودية إلى تركيا على الرغم من الصراع على الزعامة...

أكثر من ٣ سنوات فى تيار

بدأت لحظات العصف الاجتماعيّ تتساقط من الشمال مع لياليه الحزينة كما وصتها فيروز العظيمة. لسنا أمام تمرّد اجتماعيّ بالمطلق بوجه الجوع، مع العلم بأنّ الحكومة أخفقت في لدمج بين معادلتين ضرورتين مكافحة الجوع ومكافحة الكوفيد. فكما ارتأت الحكومة اللبنانيّة المستقيلة الجليلة الاتجاه نحو الإغلاق لحماية اللبنانيين من الموت نتيجة هيمنة الكوفيد-19 كان عليها بالأحرى أن تتجّه لحماية اللبنانيين لا سيّما الفقراء منهم وذوي الدخل المحدود من الجوع، فالكوفيد والجوع يقودان إلى لحد واحد، والإمام عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه قال: "لو كان الجوع رجلاً لقتلته".
غير مرّة اقترحنا في هذا الموقع وفي احاديث عديدة بأن تدفع الدولة اللبنانيّة للأسرة الواحدة مبلغًا قدره مليون وخمسمئة ألف ليرة لبنانيّة، فاكتفوا بمبلغ قدره أربعمئة ألف ليرة للعائلة الواحدة، أليس معيبًا رمي المال بهذه الطرائق الفوقيّة وكأنه صدقة، فيما هذا حقّ للناس؟ في مقابل ذلك يوجد رؤساء حكومات ووزراء ونواب حالبون وسابقون من أصحاب المليارات، ومنهم من سرقها من خزينة الدولة وهرّبها إلى الخارج، أليس مخزيًا ألا يتبرّعوا بجزء كبير من معاشاتهم ومدّخراتهم للدولة اللبنانية، وقد استحلبوها لتخصّص الناس بحوافز مالية كريمة تجعلها صامدة في زمن السلطان كوفيد-19؟ أليس مقرفًا أن يستعمل ملياردريو طرابلس مسيحيون ومسلمون أزقّة الفيحاء المغبرّة والفقيرة وصولاً إلى باب التيانة وجبل محسن أسوارًا لقصورهم ودورهم وشعب هذه الأحياء يتضوّر جوعًا؟
كلمة واحدة تقال قبل تشريح المشهد: لأجل هؤلاء يناضل ميشال عون، وقد خصّص بعد انفجار مرفأ بيروت مخصّصات رئاسة الجمهوريّة للتعويض على المنكوبين في لحظات اكتفى عدد كبير من الأثرياء بالصمت. أذكر بأن فخامة الرئيس في مرحلة الثورة ومع بداية انتشار الوباء اللعين، اتصل بصديق مقرّب منه، وقال له بحسرة، لا أستطيع النوم مليًّا في الليل، فانتفض الصديق وقال له، يا جنرال إنك تسيء إلى صحتك ونحن نريدك شامخًا، فأجابه كيف تريدني أن أنام وفي لبنان أطفال لا يستطيع ذووهم شراء مجامع الحليب لهم؟؟!! هذا هو ميشال عون رئيس جمهورية لبنان، يناصبونه العداء فيما هو متجلّ بفكر قيميّ أخلاقيّ وإنساني وروحيّ.
حدث العصيان في طرابلس أباحته فوقيّة الحكومة بالتعاطي الاجتماعيّ مع الفقراء، وأباحته لجنة الكورونا وبعض المستشارين المصرّين على الاقفال ومن دون تعويضات أو محفّزات تذكر، وبعضهم يتضرفون وكأنهم الدولة، وأصحاب القرار (أو يتصرفن). ولكن ليس من فكر أو قراءة يبرّران ما حدث في طرابلس وبيروت وفي بعض المناطق اللبنانيّة من عصيان وتحطيم أرزاق العالم واقتحام سراي المدينة لأن هؤلاء جائعون. فمن تحرّك ويتحرّك في طرابلس هم الذين تحرّكوا في بيروت سابقًا بمنهجيّة واحدة وهي التحطيم عن طريق العصيان. إنّه العصيان السياسيّ الواضح أمامنا، بمعانيه ومدلولاته وتوجهاته ومعاييره، وبموجّهيه المتحركين في الأفلاك الإقليميّة والدوليّة، بالأذرع الأخرويّة المترجمة لصراع نفوذ بين الفرنسيين والأتراك، والسعوديين والأتراك، والأميركيين والإيرانيين، وتتحرّك مفردات الصراع بين لبنان والعراق بشدّة وقسوة، بتهديد واضح لسوريا وإيران وروسيا، على مشارف انتخابات ستجرى في سنة واحدة في إسرائيل وسوريا وإيران، وعلى مشارف ترتيب الإدارة الأميركيّة الجديدة أوراقها التفاوضية ما بين الأرض والطاولة سواء مع روسيا أو الصين أو إيران.
ما حدث في طرابلس ويحدث في طرابلس وعدد من المناطق اللبنانيّة ضمن نيئة مذهبيّة واحدة بقودنا إلى مجموعة استنتاجات وهي التالية:
1-بأن تركيا عادت وبالتعاون مع أميركا ضمنًا بدءًا من الإدارة الأميركيّة السابقة تضغط ما بين لبنان والعراق باستنهاض الإسلام السنيّ السياسيّ بوجهيه التكفيريّ، وبحدود محدّدة جدًّا الليبراليّ، عن طريق تنظيم داعش وجبهة النصرة، وهما خلايا شبه راقدة ومنتظرة في عكار والضنيّة وطرابلس، وجريمة كفتون في شمال لبنان، وملاحقة الجيش لتلك الخلايا وقتالها معها في منطقة وادة خالد المتاخمة للحدود السورية بيّنت عمق موجوديّتها والدور التركيّ في رعايتها وتوجيهها.
2-بأنّ الخطة المرسومة هادفة لتطويق حزب الله في لبنان عن طريق استفزازه ليتحرّك باتجاه فتنة مذهبيّة تستهلك العنوان الاجتماعيّ، واللواء أشرف ريفي لا يزال يعلن هذا الهدف وهو القضاء على سلاح حزب الله ومواجهة ولاية الفقيه، وحزب الله مدرك بواقعيّة لتلك الخطّة ويتعامل معها عن طريق العقل الواعي البعيد كليّا عن الانفعالات والهياج. وهي هادفة بدورها لتطويق سوريا من خلال بسط تركيا وجودها ودورها غير المباشر بواسطة أذرعتها على الحدود مع سوريا، فيما هي لم تنسحب بعد من إدلب ولا تزال تحاول فرض شروطها على روسيا، وقد نكثت بالاتفاقيّة معها في مسألة ناغورني كاراباخ، لنرى بأنّ النار فيها عادت تظهر تحت جمر الانتظار، والعثمانيّ الجديد يتموضع من دون مقاومة روسية شرسة له.
4-بأنّ  اشتداد الصراع أيضًا بين تركيا والسعوديّة في مسألة رعاية السنة المشارقة لا يغبى على أحد. فلا يزال سعد الحريري يعزف على أوتار التناقضات السعوديّة-التركيّة، وقد خذل رئيس دولة فرنسا ومبادرته بالتوجّه إلى تركيا. فلا السعوديّة قبلته ولن تقبله أو تعترف كابن مدلّل لها، وأميرها قد أنشب مخالبه غارسًا لها في جسده، ولا الأتراك استساغوه بجديّة، والفرنسيون يبدون كالمخدوعين منه وأمامه. النكتة في هذا الاستنتاج الرابع بأن سعدًا هاو للجثوّ وطأطاة الرأس أمام الأعتاب السعودية، ولا يزال يسجد أمامهم ويقدّم نفسه وليدهم وهم قد تبرّاوا منه. ولهذا حين تتحرّك طرابلس وتتحرّك جماعة ريفي وبهاء والحلبي ومن لفّ لفيفهم يتحرّك هو في مناطق قاعدة تحت نفوذه ليظهر للسعوديين أنّه رافض لنفوذ تركيا في الشمال عن طريق أشرف وبهاء، وهو مع مجموعته قادر على الانحناء أمامهم شريطة أن يعينوه للوصول إلى رئاسة الحكومة اللبنانيّة، وأن يكون الممثّل الأوحد للسنيّة السياسيّة في لبنان والمشرق.  
5-بأن قصف حماه وحمص من طرابلس بواسطة الطيران الإسرائيليّ، وقصف دمشق من الطيران عينه من البقاع يؤكّد حتمًا انغراس الإسرائيليين في الضغط واستهلاك لبنان وسيلة وقاعدة متماهية مع طموح أردوغان وفي لحظات النجاوى الخليجيّة-الإسرائيليّة. وما يحدث على الأرض ليس بعيدًا عن القصف الجويّ في لعبة واحدة تجعل من لبنان مستقرًّا ومقرًا في تطويق سوريا والتناغم مع أحداث العراق الأخيرة.
6-بأن سعد الحريري يستفيد من تلك الأحداث والتناقضات في تركيبتها ليظهر نفسه المنقذ وهو المفلس، ويريد أن يقول لرعاته السابقين بأنه سيعيد مسيحيي لبنان إلى بيت الطاعة بتطويع العهد وتقويضه عن طريق تطويقه. فقد ظهرت خطته واضحة في فترة عيد الميلاد بزيارته الرئيس وممارسته تزوير الحقائق، فتمّ التلاعب بسعر صرف الدولار نزولاً وصعودًا ولا يزال يصعد، وعن شحن الناس وحشدها بوجه العهد كما يحدث الآن مع فريق آخر في طرابلس وفريقه في بيروت لإظهاره عاجزًا فتولد الصرخات من رحم العجز مستنكرة "الممارسات الاستبداديّة" بالتجويع في مرحلة الكورونا، وللتأكيد بأن الثورة والحريري لم يكن بعيدًا عنها كانت محقّة في مطالبها وصراخها.
7-بأن شحن الشارع ضدّ العهد على الرغم من تناقضات شاحنيه سياسيًّا ضمن الصراع التركيّ-السعوديّ، هدفه واحد، بعنوان واحد، إسقاط الرئيس ميشال عون في لبنان، وهو مكمّل لمشروع تقسيم العراق وفدرلته. إذ متى سقط العهد في لبنان سقطت معه الفلسفة الميثاقيّة وانكسر مشروع الدولة المدنيّة وسفك دم الجسد المشرقيّ ما بين لبنان والعراق ليكتمل في سوريا لاحقًا بتصوّر سرياليّ-هيوليّ. سعد الحريري أو بقيّة الأطراف ضمن الدائرة السنيّة في تشدّدها الواضح متسللون ومعهم تتسلل تلك الأطروحة في سبيل تهييج اليمين المسيحيّ في لبنان، وهذا ما يحدث الآن مع عدد من المتشدّدين منه مع بثّهم الفدرالية كمرساة نجاة للبنان فيما هي نهاية للبنان وسوريا والعراق معًا.
وبعد، هل يسوغ أيّ استنتاج آخر بفكر استباقيّ لما يمكن أن يحدث؟ 
أمران أخيران ننهي به تلك العجالة. 
-الأمر الأوّل: نذكّر القرّاء الأكارم، بأنّ فخامة الرئيس الجبل، وقبل الرئاسة، وفي حديث أجراه مع الزميل غسّان بن جدّو على شاشة الجزيرة سنة 2013، غاص في قراءة استراتيجيّة راى فيها بأنه لا يمكن لروسيا سوى أن تدخل إلى سوريا، لكونها جزءًا من حديقتها الخلفيّة، والحلم الروسيّ الوصول نحو المياه الدافئة، وقد دخلت بالفعل. واليوم وفيما الشغب يحدث على تخوم سوريا، سواء من طرابلس إلى عكار، أو في مناطق من البقاع الغربيّ والأوسط، فهل روسيا ستترك النفوذ التركيّ يأكل من ثمار إنجازاتها ومصالحها، وهل سوريا ستصمت حين ترى خاصرتها كما هي تمسيها ينفذ فيها سيف أردوغان من جبال عكار ومدينة طرابلس وسهل البقاع؟ هذا سؤال متروك للتقييم النظريّ الاستشرافي وهو غير بعيد عن إمكانية قلب الطاولة وتغيير قواعد اللعبة على كلّ المستويات.
-الأمر الثانيّ: نذكّر الحكومة اللبنانيّة بضرورة عدم ترك تلك القوى تستغلّ الإقفال والحجر بلا حوافز مالية لتنفيذ مشاريعها القاتلة، وإلاّ فلات ساعة مندم، والانفجار الاجتماعيّ سيكون المقدّمة لقلب الطاولة بحروب متنقلّة ستفجر لبنان من أحشائه. 
أيتها الحكومة تواضعي واتعظي واعدلي. 

بقلم جورج عبيد

شارك الخبر على