قصة طعنة اغتالت قلم نجيب محفوظ.. عندما استهدفه متطرفو «أولاد حارتنا»

أكثر من ٥ سنوات فى التحرير

في الخامسة من عصر الجمعة 14 أكتوبر 1994، وبينما الطبيب البيطري محمد فتحي، صديق الأديب العالمي نجيب محفوظ، ينتظره في سيارته الحمراء، خرج الحاصل على جائزة نوبل من بيته في العجوزة، والتقى العسكري المُكلف بحراسته، وطلب منه كالعادة أن يبقى مكانه ولا يُرافقه، ركب السيارة متجهًا إلى مقر الندوة، التي يحضرها أسبوعيًا مع شباب الأدباء والكُتاب، وفجأة اقترب شاب من الشباك المُجاور له، طعنه من الجهة اليُسرى لرقبته بسلاح أبيض، حالة من الفزع انتابت قائد السيارة، وتحرك في سرعة شديدة لمستشفى الشرطة بالعجوزة.

5 ساعات كاملة قضاها محفوظ في غرفة العمليات بين الحياة والموت، بعدما تسببت الطعنة في قطع شريان رئيسي للنجيب، فيما أصدر الرئيس حسني مبارك توجيهاته بعلاجه على نفقة الدولة، انتشر الخبر في الصحف، وخرجت السيدة عطية الله إبراهيم، زوجة النجيب، لتطلب من مُحبيه الدعاء له، خرج محفوظ من غرفة العمليات مساءً، الكل ممتن لأنه نجا، والكل في حالة ذهول مما حدث، وعلى جانب آخر، تحركت وزارة الداخلية لضبط الإرهابيين، قُبض على 4 من الجُناة، بدأت التحقيقات، اعترف الجُناة بأنهم خططوا لقتل نجيب بالتزامن مع الذكرى السادسة لحصوله على نوبل.

الخطة الرئيسية للاغتيال، كما جاء في الاعترافات، أن تذهب مجموعة إلى بيت نجيب محفوظ، على أنهم من المعجبين بكتاباته، ويُحضرون معهم ورد وشوكولاتة، وعندما يُقابلونه يطعنونه بسلاحِ أبيض، ويمنعوا زوجته من الصراخ، لكن في ذاك اليوم، وعندما طرقوا الباب، قالت لهم الزوجة إنه غير موجود، وإنه لا يُقابل أحدًا في بيته، وأخبرتهم إنهم بإمكانهم مقابلته غدًا في ندوته بالتحرير.

وتأتي اعترافات محمد ناجي مُنفذ العملية بالكثير من التفاصيل المؤلمة، قائلًا: "عندما خرج من منزله ليُقابل صديقه وجدت الفرصة سانحة لأنال شرف تنفيذ شرع الله فيه، وتقدّمت نحوه وأخرجت مطواة قرن الغزال من تحت ملابسي وطعنته في رقبته طعنة قاتلة"، كما أكد في أكثر من مرة أنه لم يقرأ أي رواية للنجيب، وأوضح أنه حاول قتله تنفيذًا لفتوى عمر عبد الرحمن، مفتى الجماعة الإسلامية آنذاك، بإهدار دمه لاتهامه بالكفر وارتداده عن الإسلام بسبب رواية "أولاد حارتنا"، يُتابع: "غادرت الموقع، وكنت قد نسيت أن أُكبر عليه أثناء الطعن، فقمت بالتكبير في سري".

وإذا كانت رواية "أولاد حارتنا" التي نوهت إليها هيئة جائزة نوبل في حيثيات منحها لنجيب محفوظ عام 1988 هي العمل، الذي يستند إليه المتطرفون في تكفير الأديب ومساواته بسلمان رشدي صاحب رواية "آيات شيطانية"، فإنها تعد في نظر كثير من المنصفين دُرة إنتاج الأديب العملاق، الذي طالما دق ناقوس خطر التطرف، الذي يرفع راية الدين في عدد من رواياته، ومنها "المرايا" التي جعل سيد قطب شخصية محورية فيها، واختار له اسم "عبد الوهاب إسماعيل"، ورواية "حديث الصباح والمساء" من خلال شخصية "سليم حسن قابيل"، وكذلك رواية "يوم قتل الزعيم".

واستند هؤلاء إلى وقف نشر "أولاد حارتنا" مسلسلة في "الأهرام" في بداية خمسينيات القرن الماضي، بعدما ثار حولها جدل كبير، خاصةً فيما يتعلق بالتفسيرات المباشرة للرموز الدينية في الرواية، وشخصياتها أمثال: "الجبلاوي وأدهم وإدريس وجبل ورفاعة وقاسم وعرفة"، وقوبلت باعتراض هيئات دينية على ما وصفوه بـ"التطاول على الذات الإلهية".

بعد أن استفاق الأديب من غيبوبته بعد أيام، قال في حديث لـ"الأهرام": "الشاب الذي رأيته يجري كان شابًا يافعًا في ريعان العمر، كان من الممكن أن يكون بطلًا رياضيًا أو عالمًا أو واعظًا دينيًا، فلماذا اختار هذا السبيل؟ لست أفهم"، بينما كتب إليه أحد المتهمين بقتله من محبسه، ويُدعى عمرو إبراهيم، رسالة اعتذار لطلب العفو، وحملت والدته الرسالة إلى النجيب، وبدوره قبّل اعتذاره بعدما تأثر برسالته.

وقضت المحكمة العسكرية بإعدام محمد ناجي محمد مصطفى، ومحمد خضر أبو الفرج المحلاوي، والحكم على عمرو محمد إبراهيم، حسين علي بكر، بالسجن المشدد، وبالأشغال الشاقة لمدة 7 سنوات على ياسر أبو عطية، والثاني عشر عبد الحميد محمد أبو زيد، وبالسجن 5 سنوات على المتهم السادس علي جمعة علي، وبالسجن 3 سنوات على كل من المتهم الثامن مصطفى عبد الباقي، والتاسع أحمد حسن أحمد، والثالث عشر محمد معوض عبد الرحمن، والخامس عشر فيصل شحاتة محمد، كما قضت ببراءة كل من المتهم السابع عبد الناصر جمعة علي، والرابع عشر علي حسن سباق، والسادس عشر صلاح محمد محروس.

نجا النجيب من محاولة الاغتيال بعدما مكث في المستشفى سبعة أسابيع، لكن مصر بمثقفيها وشعبها لن ينجو من صدمة التكفير والعنف والجهل، ومنذ ذلك اليوم الصعب تغيرت أشياء كثيرة في حياة عميد الرواية العربية، حيث أصبح غير قادر على استخدام يده في الكتابة، كما أن الرجل الذي كان معتادًا على المشي لمدة ساعة يوميًا بسبب مرض السكر، الذي يُعاني منه منذ بداية الستينيات، لم يعد يستطيع فعل ذلك، كما اضطُر للاستجابة لإلحاح أجهزة الأمن فلازمه أحد الحراس لحمايته.

توقف نجيب محفوظ عن الكتابة بعد الحادث، لكنه في السنوات الثلاث الأخيرة من حياته، كان يكتب قصصًا قصيرة أطلق عليها اسم "أحلام فترة النقاهة"، حتى توفى في 30 أغسطس عام 2006، في القاهرة، وكان عمره 94 عامًا، وفي اليوم التالي ودعت مصر نجيبها بجنازة شعبية خرجت من مسجد الإمام الحسين، تنفيذًا لوصيته، ومن ثم جنازة عسكرية أخرى من مسجد القوات المسلحة، آل رشدان، بمدينة نصر، وتقدّم الرئيس مبارك المُشيّعين.

شارك الخبر على