على تخوم البرية.. يجمع لها الكمأ

ما يقرب من ٦ سنوات فى المدى

جاسم العايف لا يمكن تحت أي مسوغ الفصل بين الإنسان و الشاعر ، إلا في حالات استثنائية ، وفيما يخص الشاعر(كاظم اللايذ) وعبر نتاجاته الشعرية ، بقي يدافع عن سمو ورفعة حياة البشر اللائقة ، بغض النظر عن العرق ، والجنس، والدين وتفرعاته ، وحتى المكان ، وبالتزامن مع مواقفه الحياتية الناصعة ، والتي لم يتنازل أو يتراجع عنها قط ، في أزمنة الاستبداد. كما انه وبعض الأصدقاء في (البصرة) وخارجها تعاملوا مع أستاذنا النبيل ، بعد أن جافته الأيام والسنوات الراهنة المرة ، وتدهورت أوضاعه العامة - الصحية ، ولم يسمحوا إطلاقا لأنفسهم في أن يُترك جانباً و" يموت وحيداً "، و(كاظم) منهم ، وقد تطرقت إلى ذلك في تناولي لكتابه " دفتر على سرير الرجل المريض" المنشور ضمن كتابي (سحر القراءة ) وجاء في نهايته:"مبادرة الشاعر (كاظم اللايذ) في إصدار كتابه ، على نفقته الخاصة ، وتوزيعه مجاناً ، مع مجلة (الشرارة ) التي تصدر في النجف ، وبالتزامن مع ذكرى رحيل أستاذنا "محمود عبد الوهاب" تقع ضمن قيم الوفاء النادر في هذا الزمن الرديء، الذي أطاح بالكثير من القيم والثوابت النبيلة المتعارف عليها اجتماعياً ، وبالترافق مع اهتماماته المتواصلة به خلال حياته ، ولا يسمح الزميل (اللايذ) نهائياً ،لأيٍ كان، التطرق إليها، أو الحديث عنها ". **في قصائد الشاعر (كاظم اللايذ) عبر مجموعاته الشعرية: (في الطريق إلى غرناطة - 1996 ، و النزول إلى حضرة الماء - 1999 ، وأطراس حارس الزمن- 2012 ، و بوابات بصرياثا الخمس- 2015 ، إضافة إلى مجموعة الأخيرة :" على تخوم البرية..أجمع لها الكمأ " * ، وعبر موهبة شعرية استثنائية، وبقدرة متميزة على تحويل مواد الحياة الأولية إلى صور تدهش المتلقي بطراوتها ومفارقاتها،وبعد أن يعلم ويقر واقعة الغياب النهائي الذي سنخضع له كلنا ذات لحظة ما يعلنفي قصائد (اللايذ)لا ثمة استسلام للإنشاءات العاطفية المبتذلة ، ولا انتماء إلى الصور والاستعارات غير المألوفة ، بل نتاجه الشعري ينبع من أدنى درجات سلم الألم متوجاً بمديات التوتر الإنساني العارف بلا تكلفالصور الشعرية في قصائد( اللايذ) تبتعد بوعي وقصدية عن الترهل الذي يسود مناخ الكثير من القصائد ، التي سمح لنا الاهتمام والوقت في الاطلاع عليها، فهي في قصائده تكون في خدمة المعنى والتوجه العام للقصيدة.** " اللايذ" يسترجع في شعره كثيراً ذلك الزمان الذي تميز بالقهر وخيباته، بالترافق مع ألقه الذي تبَدد عبر الانكسارات و الخيانات المتواصلة ، التي ألقت بظلها الأسود على نكهة الحياة البسيطة ، كما يسترجع الأصدقاء وغيابهم الفاجع ، ومنهم الشاعر (مجيد الأسدي) الذي كان يتنزه ويصطاد السمك ، صباحاً ، بمحاذاة (الكورنيش) ، وعثروا عليه صريعاً جنب النهر، وقد تناثرت عدة صيده على جرفه
إزاء ذلك وغيره من فواجع الرحيل غير المتوقع ليس لنا إلا الشهقات المنطوية على الأسى ، ولا نندفع نحو (الغرابة) حين نراه يستخدم بعض التشبيهات من مثل "لماذا فعلتها أيها الوغد"؟! والمقصود (لؤي الناهي) صديقه الذي نكث بوعده ورحل في صباحٍ لا يصلح للموت** الشاعر (كاظم اللايذ) يستفيد بوضوح من فن السرد، الواقعي تحديداً، وعوالمه التي لا حدود لها ، عبر ذلك الخيط الدرامي المتماسك، في قصائده التي تتجه مباشرة إلى المعنى دون أن تقع في فخ المباشرة، والغنائية الفجة، وهو يكتشف في الأمكنة التي يمر بها مهما نأت عنه و (بصرته) الغارقة في الوجدان، فيحدق بماضيها السحيق .وهو إذ يحدق طويلاً في خصائصها المتوهجة قديماً ، الهاربة منذ أمدٍ ، يرى الدكاكين كـ(البغايا) تُـبدل أصحابها بالوفاة ، أو البيع ، أو بالمزادات، أو بالخسائر المتواصلة ، ويسعى إلى القبض عليها عبر ذاكرة ندية - متوقدة ، تغالب النسيان ، فيستعيد : النوتية الهنود أصحاب السفن القادمين إليها من أعالي البحار، ومعهم جوز الهند، والأسماك المجففة، والبخور، والعنبة وحلوى(مسقط) ، ويقايضونها بالتمر ، والدبس ،على سواحل (العشار)، وحينما اشتعلت الحرب ، احتبست في (شط العرب) سفنهم ، وتقطعت ببحارتها السبل،تحت سماءٍ ملبدةٍ بالدخان والرعب والجنون،وبعد أنْ نخرت القذائفُ والأمواج والجرذان سفنهم ، ترجلوا منها ، نحو أسواق المدينة يمدون أيديهم إلى السابلة ،وكلما حدقن بهم ، بائعات الخضار وأرامل الحرب،تذكرن شيئاً ما، وامتقعت وجوههن ، وسالت دموعهن ، ودكان(زلخا) البصري - اليهودي، بائع الأواني الزجاجية في سوق (المغايز)، والذي يقبع في قبره ميتاً بالخيانات كما ادعت الحكومة ، وعلقت جثته ،تلاعبها الريح، قرب ساحة (أم البروم) ذات فجرٍ ما؟!. و(فرجو) ومجلاته وكتبه ومعاجمه الأجنبية - العربية ، ودكان بائع التوابل التي تجيئه من (بومبي) ولا تفقدها أعاصير البحار روائحها وطراوتها ، (وخماس) بائع العصير المثلج ،صيفاً، إلى الصغار والكبار ، ودكان (طليا) وهو يبيع ،علناً، (العَرقَ) غير المغشوش ، وملهى (الفارابي) ولياليه ، و(العامريُّ) مصلح ساعات الأوقات والأزمان ، ومطبعة (التايمس) جنب سراي الحكومة ، وتلك (السينمات) الكثيرة ، التي دحرتها الأزمنة السابقة - الراهنة ، وجسر (المغايز) الخشبي الذي عبرته الأقوام من شتى الجنسيات والأجناس. وحتى وان غادر مدينته على سفر نحو البلدان القصية ، يبقى ذلك المفتون عبر قصائده يتفرس الشاعر ( كاظم اللايذ ) في بقايا الأمكنة المحلية وخصوصيتها التي كلما ننأى عنها، نعود لاستعادتها، بوسائل وطرائق وصيغ شتى، ونسقط على الكثير من بعض مظاهر حياتنا الصعبة القاسية - الراهنة ، الذاهبة نحو المجهول ، حاجتنا للإحساس بالحماية والأمن اللذين يمكن، في لحظة نادرة ، أن يتوفرا لنا.

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على