أخلاقيات شخوص الرواية

ما يقرب من ٦ سنوات فى المدى

 ياسين طه حافظ
القارئ العادي ، سمّه ابن الشعب، كما يريد المرحوم سلامة موسى، يريد من القصيدة انتقاداً أو هجاء لعيوب الدولة والمجتمع، ويريد من الفن تصوير واقع الناس ويريد من الرواية وعموم الأدب دروساً في الحكمة والأخلاق. وطبعاً هذا بالنسبة للكاتب أو الفنان مطلب يدل على بساطة في الثقافة الفنية للكتابة. فهو يدل على جهل أو سذاجة في فهم العمل الشعري والفن الروائي ، كما في الفنون كلها. فإن أياً من هذه الفنون الابداعية عمل فني و الفن ليس درساً و مقالاً في السياسة والأخلاق والمجتمع ولكنه اجتهاد آخر وإن كان غائياً او هادفاً، فهذه الغاية أو الهدف محصلة أخيرة من التعبير الحضاري وتنمية روح وفكر الفرد،
مع تقديرنا للمطلبين الشعبي والفني ، نحن نحس إثر قراءتنا ومن نتائج بعض الأعمال ، إننا نعايش أجواء وشخوصاً. بعض من هذه الاجواء وبعض من هؤلاء الشخوص، امزجتهم واخلاقهم وافكارهم، تصحبنا وقد تؤثر في مزاجنا وسلوكنا. ولا أظن أحداً ينكر حضور هاملت أو مكبث أو عطيل أو قيس ليلى أو الحلاج في ذاكرته، كما لا أحد ينكر حضور الشيخ ( في الشيخ والبحر لهمنغوي) ولا الشخصيات الصعبة والقوية في موبي ديك او قلب الظلاموأنا منشغل في قراءة ثانية للإخوة كرامازوف أجدني مع إليوشا الراهب الشاب ومع الأب فيدور صعب الشخصية المزدحم بأمزجة غريبة متناقضة ومع ديمتري وإيفان. نحن إذن نكتسب من الشخوص إن لم يكن ما نكسبه صفات أخلاقية وافكاراً، فأن أمزجتها تؤثر في تطور أو تعقيد أمزجتنا سلباً او ايجاباً.ومن مجمل ما ضخّه فيدور – الأب وما فاض به ديمتري في جلسة طويلة مع أخيه ايوشا، تجدنا في زحمة اخلاقيات وأفكار شتى ليست بعيدة عما تفرزه أوضاع ومكبوتات الشعب الروسي قبل الثورة وما يتطاير عبر الكلام والسلوك من تشكيك بالمعتقدات السائدة وبالاوضاع الاجتماعية والحكم، كما نقول اليومن ، كأننا شئنا أم لم نشأ، بأزاء أخلاقيات ومبادئ، قلقة أو راسخة في الحياة والسلوك فالدعوى السليمة لسلامة العمل الفني والعناية أصلاً بفن الكتابة، التعبير والتقنية، وتطور أساليب الكتابة وأبعادها الأوسع أفقاً والأغنى دلالات لا تتناقض مع ما تركت هذه الأعمال من آثار اخلاقية ومزاجية وافكار. هي حصيلة غير مباشرة للقراءة. وبسبب "النجاح" الفني وتقدم الثقافة والتقنية وقوة التعبير في العمل وربما اللامباشرة في الطرح والكشف، كانت الغاية، كان الهدف، فناً روائياً. وفناً يرسم تطوراً في الكتابة الروائية وابداعاً فيها . هذا التقدم والنضج أديا الى تأثيرات أكثر عمقاً وأطول عمراً ومدى . أظن أن عملاً ساذجاً فنياً، مهما أضحك وأبكى، لن يكون ذا أثر يمتد قروناً! وهذا هو سبب دعوتنا الدائمة للابتعاد عن الطرائف و السذاجات السياسية، وتبسيط متاعب الفرد بالمباشرة المسفّة التي ترضي واقع اليوم وتنسى محنة الانسان وإشكالاته الصعبة الدائمة. أرجو ملاحظة أن معنى الدائمة في قولنا تشمل الآتية ورؤيا تطوراتها، ربما الأكثر تعقيداً في المستقل.. فمثلما لا ننكر وجود أدب " استهلاكي آني يدغدغ عواطف أو يثير غرائز او يرضى استياءات الناس السياسية والاجتماعية، وهو الشائع المريح او الباعث على الاستحسان في قطاعات واسعة. لكن ما نجده ، مما بقي من كتابات من القرون السابقة، و مايظل من هذه، بالرغم من تحول الظرف أو غياب المناسبة، هو ماله صلة بجوهر الأدب وجوهر الفن. وهذا هو الذي يظل يشعّ أو هو طويل التأثير، كما رأينا في النماذج التي ذكرنا لها أمثلة أول المقال...أعود لقراءتي للإخوة كرامازوف ، فأقول ليس سهلاً أن أجد كتاباً يصور دقائق الأحوال في روسيا النصف الثاني من القرن الثامن عشر افضل كماصورته الاخوة كرامازوف. اننا نرى بوضوح وبدقة الكثير من أحوال الناس اليومية الى أقصى تفاصيل معتقداتهم و قلقها ومن المزارع الى الكنيسة ومن بيوت المتمولين السادة الى الخدم والعاملين. وعبر هذا نجد شتى الاخلاق وانواع السلوك والانحرافات النفسية والتمردقات . نحن نرى الفضيلة ومنتهى الرذيلة واحياناً اجتماعهما معاً ومن الشراسة والقسوة الحيوانية الى اللطف الانساني والعطف ولحظات صفاء الانسانية بالرحمة الجميلة والمحبة. اظننا امام نماذج اخلاقية هي حقا نماذج من اخلاق البشر في الارض كلها مثلما لها طابع روسي قح. والغريب أن هذا يتضح في كلمات حقد قوي كاسح وكلمات غاية في الرقة في لحظات الحب والارتياح الروحي... لعل العبارة التي وردت في كلام إيفان فيدروفيتش، وفي ذلك التساؤل الشجي : " لماذا لايوجد إنسان واحد، ولو من الصفوة المختارة، يعذبه ألمٌ نبيل ويستبد به حب الانسانية ؟ " اعتقد إنه كشف ، إعلان عن الأمنية الإنسانية عبر العصور وإنه دعوة إخلاقية قبل كل شيء. هو يعلم أن لا – المسيح حقق هذا ولا دعاة الاصلاح من الكنسيين وإن الشعوب في الأرض بقيت في عذاباتها عبر العصور وانها لم تحظ باخلاقية جديدة مهذبة ومنصفة بل تعاني من " الحطّة والخسّة. وما كف الوجع الانساني جراء الشراهات والطمع وروح الهيمنة والازاحة واستعباد الآخرين.ان دراسة عميقة لاعمال الوقائع وسلوك الشخصيات وتفجراتهم غضباً او نزوعات إجرامية وتوسلاتهم باسباب شتى للخلاص تعني اننا مع انسانية عذاباتها أعمق . كثيراً وابعد من سعاداتهم الطارئة والسطحية. وهذه صارت أسساً لأخلاق معقدة، صعبة التصنيف النهائي. القسوة الوحشية و المحبة المسيحية والضعة وجنون التسلط والعنف والدموع وجعاً او مسكنة وضعفاً. المؤلف لم يترك فصلاً مستقلاً بكتابه اخلاقية او إيمانية او اجتماعية. لكن كتب رواية عظيمة بفنها الروائي وقوتها. وفي قراءتها عرفنا هذا وسواه،فنحن نرى مجتمعات روسيا أواخر الثامن عشر، نرى المقدسات المهزوزة و الومضات الحادة للمخاص الثوري، والتمردات الشخصية وقلق الشخوص في طموحاتهم وعلاقاتهم الشخصية فهم يخوضوت صراعات نفسية ساعين الى خلاصهم مع الجهل بما يجب أن يفعلوه...

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على